الزنج – جمعية اقرأ لعلوم القرآن
قال أستاذ الحوزة العلمية سماحة الشيخ رائد الستري إن “هناك مشكلة في تفسير القرآن الكريم تقود بعض الناس إلى نوع من الشبهة”، محذرًا من أن “التدبر لا يعني أن تفسّر.. وتطرح آراءك في التفسير وأنت بعيد عن الاختصاص القرآني”.
وخلال كلمته التي ألقاها بعنوان “فضول الاختصاص” ضمن برنامج الليلة الثالثة من نهائيات مسابقة “اقرأ” القرآنية (12)، بتاريخ ٢ ديسمبر ٢٠١٨م، أكد الستري أن “الاختصاص القرآني والإلمام بالقرآن يحتاج إلى جهدٍ جهيد، وإلمام مثل العلامة الطباطبائي، مثل كثير من علمائنا، حتى علماء العامة”.
وأردف أن هؤلاء “لم يبلغوا مرتبة التفسير إلا بعد سنوات من الجد والاجتهاد، لا في القراءة وإنما في التدبر، وفي ملاحظة وملاحقة التفاسير المتعددة والروايات، ليصلوا إلى بعضٍ من معاني القرآن الكريم”.
وقال سماحته: “تتدبر لتحتفظ بالمعنى الذي تصل إليه لنفسك، لا تبيّنه للآخرين إلا كفكرة محتملة، ربما تناقشها مع الآخرين، أما أن تبرزها كقناعة مسلّمة عند ذلك عليك أن تستيقن أنه قد استعلاك الغرور ونوع من الفضول”.
وفي سياق متصل شدد الستري على أنه “لا يزيد القرآن أن تتعلمه شيئًا، وإنما القرآن يزيدك انت شيئًا، يزيدك شرفًا، يزيدك علمًا ووعيًا وقربًا من الله عز وجل”.
وهذا نص الكلمة :
نحتاج، في رسم مفهومٍ يتصل بالقرآن الكريم، أن نقف عند روايات أهل البيت (ع)، كحال أي مفهوم إسلامي، إذا أردت أن تشكل له مفردات توضحه، تبيّنه، تزيل الغموض عنه، عليك حينئذٍ أن تقف عند روايات أهل البيت (ع).
القرآن الكريم ما هي موقعيته؟
دعونا نطرح جملة من المفاهيم أو جملة من الاستفسارات لنصل إلى عمق ما نريد أن نطرحه، القرآن الكريم ما هي موقعيته؟
القرآن يشكل المعجزة الخالدة لرسول الله (ص)، إذا اردت ان تستدل على نبوة النبي الاكرم (ص) فإن ما بيدك من دليل على نبوة النبي محمد (ص) هو القرآن الكريم، معجزٌ جعله الله خالدًا ما بقي الدهر، لكي تأتي الأجيال بعد ذلك فتطمئن وتؤمن برسالة النبي الاكرم (ص).
(ذلك) جزء من الموقعية، ثم هناك جزء آخر تحدث عنه النبي الاكرم (ص) عندما قال: “إني تارك فيكم الثقلين؛ كتابَ الله وعترتي أهل بيتي”.
كتاب الله يشكل ماذا؟
“ما إن تسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدًا”، هنا النبي (ص) يبين ان القرآن الكريم مع الثقل الآخر يشكلان تمازجًا في الهداية، يشكلان طريقًا واحدًا يوصل الى الله سبحانه وتعالى، ويوصل الى ما اراده النبي الاكرم (ص)
وهنا السؤال:
كيف لي ان اجهل من القرآن نبراس هداية؟ كيف لي ان اجعل من القرآن كما اراده رسول الله (ص) ميزانًا للعروج والسلوك والإنارة للدرب والطريق في مشوار حياتي؟
مأدبة الله
نجد روايات تعبر فتقول عن رسول الله (ص): “القرآن مأدبة الله فتعلموا من مأدبة الله ما استطعتم”.
ماذا يعني (مأدبة الله)؟ تعبير دقيق جدًا، يعني القرآن يشكل كلام الله، كلام الخالق الموجِد الذي خلقنا وأوجدنا، وهنا القيمة العالية لهذا الكتاب: أن الكتاب يشكل كلامًا متصلًا بالموجِد والخالق لهذا الكون، البصير بكل دقائق الأمور، المدبّر لهذا الكون، العالم بكل خفاياه.
وهنا، قيمة أيّ كتابٍ بقيمة وبعظم شخصية كاتبه، فكيف لمّا يكون هذا الكلام منسوبًا لله سبحانه وتعالى؟!
وهنا التعبير بالمأدبة. المأدبة تعبير عن أن الله بسطه، بسط نوره فجهله كالمأدبة التي كلما جلس الإنسان عليها استطاع أن يستطعم منها، مأدبة مفتوحة، أيها المؤمنون، للاستطعام من ماذا؟ من تعاليم الله سبحانه وتعالى.
الشفاء النافع
ولذلك نجد بعد ذلك النبي (ص) يعبر فيقول: “إنه النور المبين والشفاء النافع، تعلموه فإن الله يشرفكم بتعلمه”.
لا يزيد القرآن أن تتعلمه شيئًا، وإنما القرآن يزيدك انت شيئًا، يزيدك شرفًا، يزيدك علمًا ووعيًا وقربًا من الله عز وجل.
فهنا الرواية ايها الأحبة في هذا المجال تشير الى رتبة من رتب النور والهداية في القرآن الكريم: التعلم، إجادة القراءة للقرآن الكريم، وهذه رتبة أولى، لما في القراءة ذاتها من نور، من انشراح في النفس من كلمات الله سبحانه وتعالى، من نوع التعابير التي ترشد الإنسان، هذه رتبة أولى.
رتبةٌ أخرى
ولكن الروايات لا تقف عند هذه الرتبة، (رتبة الترتيل أو القراءة المجردة)، بل تجد تعبيرات أخرى تتحدث عن رتبة أخرى للقرآن الكريم، وما هي الرتبة الأخرى التي تتحدث عنها الروايات أو الآيات؟ الروايات تتحدث عن رتبة؛ هي رتبة التدبر والتعمق في القرآن الكريم.
“أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”؟! (محمد: 24). تعبير آخر يتصل برتبة أخرى، ما حقيقة هذه الرتبة؟ وما تغير هذه الرتبة بالنسبة إلى الانسان السالك نحو الله تعالى؟ رتبة تعني أن تضيف نوعًا من الإنارة والوعي العقلي؛ الذي يتترجم واقعًا عمليًا.
شعار مسابقة “اقرأ”.. لماذا؟
ومن ذلك جاء الشعار لهذه المسابقة (مسابقة اقرأ القرآنية في عامها الثاني عشر) بوعي تام، عندما قال الأحبة: “احفظ بوعي ورتل بتدبر”.
بل ساروا ليضعوا الأحبة على هذا الطريق، من خلال جهود مثلًا في إضافة المعاني إلى القرآن الكريم أو إلى المذكرات التي توزع على الطلبة، مشكورين في هذا الجانب.
هنا الشعار أيها الأحبة، منطلق من مثل هذه التعاليم الواردة عن تن أهل البيت (ع).
لابد من الوعي العقلي، ليترجم بعد ذلك واقعًا عمليًا، لماذا؟ لأن بجانب هذه الروايات هناك روايات أخرى (مثل): “كم من قارئ للقرآن والقرآن يلعنه!”
مستوى من القراءة مجرد جدًا بحيث أن القرآن شاهد هلى انحراف سلوك ذلك الإنسان وابتعاده عن خط الله، لا قيمة لهذه القراءة، لأن الله لا يريد القراءة التي لا تترجم واقعًا عمليًا.
هنا ننتقل إلى جزء مهم جدًا
كيف اترجم كل ذلك واقعًا عمليًا؟
تترجم ذلك واقعًا عمليًا من خلال التدبر الذي لا يُكتنف بنوع من الحجب لأن التدبر أيها الأحبة قد يُكتنف بنوع من الحجب، بدلًا من أن يكون عنصرًا إيجابيًا يكون عنصرًا سلبيًا للإنسان، بدلًا من أن يبني شخصيتك يهدم شخصيتك، بدلًا من أن يكون عنصرًا لهدايتم يكون مساهمًا في ضلالتك!
كيف ذلك؟!
أيكون التدبر بهذا النوع؟! نقول: نعم. أناسٌ يتدبرون القرآن بنوع من الغرور، غرورٌ في الذات، إذا جاء يتدبر القرآن الكريم يفسّره برأيه!
تحذيرٌ من أهل البيت (ع) من تفسير القرآن بالرأي، غرورٌ في الذات، انتفاخٌ فيما امتلكه الإنسان من علم، فيظن أنه العالم الذي بلغ مرتبة عالية، ينظر إلى العلماء الآخرين فيمسك عليهم عيوبهم، نواقصهم، سلبياتهم، فلا ينطلق إلا من غرور الذات، ومن خلال تفسير القرآن برأيه، وهنا يبتعد عن التدبر الصحيح للقرآن الكريم، وهذا قد يضيف نوعًا من الحجاب على التدبر وعلى ممارسة التدبر الصحيح للقرآن الكريم.
وما يضيف تعقيدًا على مثل هذا السلوك، أيها الأحبة، (سلوك الغرور) أن الإنسان يغتر بشهادةٍ بعيدةٍ عن علوم القرآن، فيظن أن تلك الشهادة تخدمه في القرآن.
فمثلًا: ربما يكون مهندسًا، ربما يكون عالمًا ضليعًا في الفقه، ربما يكون عنده تخصص أكاديمي بعيد عن القرآن الكريم، (أو لديه) قدرة عقلية في تخصصه، وإبداع راقٍ فيظن أن ذلك الإبداع مكّنه من أن يعالج كل القضايا بما فيها القرآن الكريم!
القرآن، أيها الأحبة، يحتاج في تفسيره أن تلمَّ بالتفاسير، وأن تمسك أدوات التفسير بشكل صحيح، يحتاج إلى نوعٍ من الاختصاص، بينما هذا الإنسان لديه (فضولٌ في الاختصاص)؛ فيأتي فيفسر القرآن الكريم على طبق منظوره واختصاصه.
ونحن رأيْنا هذه العيوب، وقرأتم عن هذه العيوب، وربما البعض مثلًا يتباهى ببعض التفسيرات الموجودة الآن، مثل الإعجاز العددي، أو بعض الإعجازات المطروحة.
نحن لدينا بعض الإعجازات محل كلام عند العلماء، لذلك يطرح لك (البعض) تفسيرًا إعجازيًا يعرّض القرآن الكريم لنوع من الاستخفاف!
ضليع في الرياضيات، فيطرح لك نوعًا من المعادلة الرياضية: تجمع الآية الكذائية، تضيف الآية الكذائية، تنقص الآية كذا.. يخرج لك الناتج مثلًا ذكر الأئمة (ع)! لا، لابد أن تكون دقيقًا.
هنا، نجد بأن الله تعالى قد أشار إلى نقاط في قرآنه الكريم، هي موطن إعجازه، عندما مثلًا قطّع الحروف، وقال تعالى: حم، أو قال: ألم، أو نحو ذلك من الأمور، يريد أن يشير إلى الإعجاز البلاغي كركن أساسي في القرآن الكريم.
أنت الآن عندما تقول إن هناك إعجازًا عدديًا فهذا محل كلام عند العلماء، هل هو موجود أو ليس موجودًا؟! لكن عندما تطرحه بنوع من التسليم يأتيك آخر يقول: لا، لقد بطل الإعجاز العددي!
♦ التدبر لا يعني أن تفسّر
إذًا هناك مشكلة في تفسير القرآن الكريم تقود بعض الناس إلى نوع من الشبهة، ولذلك أيها الأحبة، التدبر لا يعني أن تفسّر، لا يعني أنك مفسّر، وتطرح آراءك في التفسير وأنت بعيد عن الاختصاص القرآني.
الاختصاص القرآني والإلمام بالقرآن يحتاج إلى جهدٍ جهيد، إلمام مثل العلامة الطباطبائي، مثل كثير من علمائنا، حتى علماء العامة، لم يكن ولم يبلغوا مرتبة التفسير إلا بعد سنوات من الجد والاجتهاد، لا في القراءة وإنما في التدبر، وفي ملاحظة وملاحقة التفاسير المتعددة والروايات، ليصلوا إلى بعضٍ من معاني القرآن الكريم.
فتتدبر لتحتفظ بالمعنى الذي تصل إليه لنفسك، لا تبيّنه للآخرين إلا كفكرة محتملة، ربما تناقشها مع الآخرين، أما أن تبرزها كقناعة مسلّمة عند ذلك عليك أن تستيقن أنه قد استعلاك الغرور ونوع من الفضول. فالقرآن يحتاج إلى جهدٍ جهيدٍ في هذا الجانب.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا وإياكم لقراءة القرآن والوقوف على معانيه والسير على نهجه ونوره وهداه، والحمد لله رب العالمين.
جميع الحقوق محفوطة لـ جمعية اقرأ لعلوم القرآن