حوار مع سماحة السيد محيي الدين المشعل
بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على أفضل الخلق والمرسلين، محمدٍ وآله الطاهرين، الهادين لله، المبلغين رسالاته.
القرآن، اسمٌ لكتابٍ له موقعه الخاص عند المسلمين، في فكرهم، في عاطفتهم، في عقيدتهم، في كيانهم ككل، وله مدلوله الخاص عند غيرهم. وله في التاريخ محلٌّ. كُتِبَتْ حوله الكثير من المؤلفات، وصُنِّفَتْ لعلومه المصنفات، لكنه يبقى الكتاب المعلوم المجهول، فكثيرٌ من يعرف شكله واسمه وربما قراءة سطوره، فهو ذاك الكتاب المشهور الممتد تاريخه إلى أكثر من ألف وأربعمائة عام، لكنْ، كثيرٌ لا يعرف ما هو؟ ولماذا؟ وكيف يتعامل معه؟
وما أحوجنا إلى معرفة واستثارة إجابات هذه الأسئلة، فقد نظن أننا نعرفها، لكثرة ما كُتِبَ عنها بالتفصيل، لكننا قد نغفل عنها مع تراكم الشواغل، أو لأنها مخبوءةٌ في طي الكتب المطنبة، أو لأننا نتعامل معها ببديهية حتى يطبق عليها النسيان، فتكون مركونةً في رفوف ملفات المعلومات القديمة في حافظتنا، فلا نحس بأهمية القرآن الذي نتعامل معه لأننا ننسى ونغفل عنه، ما هو؟ وما موقعه؟ وكيف نتعامل معه؟
لذلك كان هذا الحوار مع أحد السادة الأفاضل من الحوزة العلمية المقدسة، المهتمين والمتخصصين في مجال القرآن وعلومه، ولهم باع في أموره.
* سماحة السيد محيي الدين المشعل، السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
_ وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته.
* ما هو القرآن؟ وعما ذا يتكلم؟
_ بسم الله الرحمن الرحيم، أتصور بأن أفضل تعريفٍ يمكنه أن يستوعب القرآن الكريم هو تعريف القرآن نفسه لنفسه، حيث يشير في كثير من الآيات إلى أن القرآن كتابُ هدىً، كتابُ إخراجٍ من الظلمات إلى النور، نجد ذلك مثلاً في قوله تعالى {الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لَاْ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ}، فهو هدىً، وفي آيةٍ أخرى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيْ أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}، {إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ}، فلذلك نجد بأن أشمل تعريفٍ للقرآن بأنه كتابٌ للهداية، ولذلك حتى الآيات التي تتحدث عن الشمولية في القرآن مثلاً، {وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ}، أيضاً تشير للقضايا التي ترتبط بالهداية.
أي ظاهرةٍ تحدث عنها القرآن، ربما تحدث عن ظواهر كونية، تحدث عن ظواهر نفسية، تحدث عن ظواهر اجتماعية، الهدف منها كلها هو تحقيق هذه الغاية، غاية الهداية، هذا هو أشمل تعريفٍ للقرآن الكريم من خلال القرآن نفسه.
كذلك نجد أن كلمات النبي (ص) تدل على هذا المعنى، وكلمات أهل البيت (ع) أيضاً وكلمات أمير المؤمنين (ع) بالخصوص تدل على هذا المعنى، نهجٌ أو كتابٌ لا يضل نُهَّجُه، يعني من يسلكه ومن يسير على منهاجه.
* عرَّفتم القرآن وقلتم هو شموليٌّ، يشمل مواضيع الهداية، لكن القرآن يتناول مواضيع تفصيلية، وكأنها رئيسية في القرآن، فعمّ يتكلم القرآن؟
_ هذه المواضيع التي تحدث عنها القرآن وقلنا بأن الظاهرة الأساسية التي تجمعها هي الهداية، يمكن أن نجملها في الخطوط العامة التي نقرؤها في سورة الفاتحة، أعني في المبدأ والمعاد وما بينهما وهو الرسالة وما يرتبط بها، لذلك نجد أن الفاتحة تتحدث عن هذه المحاور الثلاثة، تتحدث عن المبدأ وهو الله سبحانه وتعالى وتوحيده وصفاته {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ}، هذه إشارة إلى التوحيد وما يرتبط به، لكنها إشارةٌ إجماليةٌ، ثم بعد ذلك يتحدث عن المعاد {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} أيضاً إشارة إجمالية إلى المعاد.
وأيضاً تتحدث عما بينهما وهو بعث الأنبياء (ع)، وإنزال الكتب وهو {اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ} الذي هو الخط الذي جسده الأنبياء (ع) {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ} وأتباع الأنبياء (ع)، {غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَاْ الضَّالِّينَ} الذين واجهوا الأنبياء (ع)، فإذن، هذه المبادئ الثلاثة أو هذه العناوين الرئيسية الثلاثة، التي اختصرتها سورة الفاتحة نجد تفاصيلها في السور الأخرى، وتلك الأمثال، وتلك القصص وتلك الشواهد المختلفة، تمثل تفصيلاً لكل هذه المرتكزات الإجمالية.
* عادةً ما يرتبط اسم القرآن بالإسلام، في الكتابات، في الأبحاث، في المحافل العلمية المختلفة، وحتى في المحافل غير الإسلامية، فماذا يمثل القرآن في العقيدة والمنظومة الإسلامية؟
_ يمثل على مستوىً عقائدي، دليل النبوة، بناءً على أن القاعدة العقائدية في إثبات النبوة وإثبات الرسالة ضرورة وجود المعجز.
الآن نحن نتحدث من جانب عقائدي، من جانب كلامي، وهو أنه قد اتفق علماء الكلام على أن الذي يدعي منصباً إلهياً لا بدّ أن يأتي بمعجزةٍ لا يقدر عليها غيره، فالقرآن الكريم على مستوىً عقائديٍّ يمثل الإعجاز على رسالة النبي (ص) خصوصاً أن بقية المعجزات لم تصل إلينا والتي شاهدها من كان معاصراً له (ص)، هذه لم تصل إلينا وإنما نقل القرآن بعضها من قبيل انشقاق القمر مثلاً، فلذلك نقول على مستوىً عقائديٍّ يمثل القرآن دليل النبوة ودليل الرسالة، ولذلك لا يزال القرآن يمثل معجزاً وللبحث عن إعجازه حديثٌ خاصُّ.
* وليس العكس، كما يظن البعض أننا نثبت أن محمداً (ص) رسولٌ وثم نثبت أن القرآن رسالته؟
_ لا، أصل الرسالة عند تعاملنا معها تمثل الدعوى، والدعوى تحتاج إلى الدليل، فحينئذٍ لا يمكن أن يكون الدليل هو الدعوى، والدعوى هي الدليل، الدعوى هي هذا المنصب الإلهي، الذي يقول فيها رسول الله (ص) يا أيها الناس إني رسول الله إليكم، إذن، أنت تدعي أنك مُرْسَلٌ من قِبَلِ الله تبارك وتعالى، فما هو دليلك؟ فتختلف الأدلة، كما قلنا إن بعض الأدلة كانت معاصرةً لرسول الله (ص) ولم يعاصرها الجيل الذي جاء من بعده والأجيال الأخرى، فيحتاجون إلى شيءٍ خالدٍ مستمرٍ يثبت رسالة النبي (ص) ونبوته فيكون القرآن الكريم هو معجزته، هذا على مستوىً عقائديٍّ، وهناك مستوىً عقليٌّ أيضاً، وهو حكم العقل بأن كل من يدعي دعوىً يحتاج إلى إثباتها، مهما اختلفت مستويات ووسائل الإثبات.
هناك جهةٌ معرفيةٌ، وهي أن القرآن الكريم يمثل مصدراً للمعرفة، للمعرفة الدينية بالدرجة الأولى على أساس أنه يتحدث عن الدين في تفاصيل كثيرة من آياته الشريفة وهذه التفاصيل حينما نأخذها تمثل قواعدَ ونُظماً تفصيليةً للدين.
فهناك جهةٌ عقائديةٌ وجهةٌ معرفيةٌ، نعم قد يكون هناك نوعٌ من التفصيل المعرفي، ولكن هذا يحتاج إلى أشخاصٍ خاصين، يحتاج إلى النبي (ص) وأهل البيت (ع)، لأننا نجد في بعض الروايات بأن الإمام الصادق (ع) يقول: “ما من أمرٍ يختلف فيه اثنان إلا وله أصلٌ في كتاب الله عز وجل”، لكن من يستطيع أن يستخلص هذا الحكم من كتاب الله ويستخرجه؟ هذا يتجلى في أناسٍ خاصين، نعم قد يتمكن جماعةٌ من استخراج معارف لم يتمكن من قبلهم من استخراجها وهذا نراه جلياً، فنرى علماءً قد استنبطوا قواعد في حركة التأريخ مثلاً، وجاء علماءٌ واستنبطوا قواعد في تغيير المجتمع، وهكذا كلما تطورت معارف الناس يمكن من خلال هذه المعارف أن نحاور القرآن ونستنطقه لنستخرج الجانب التفصيلي للمعارف، ولكن بشكلٍ أساسيٍّ هو يمثل المصدر للمعرفة الدينية.
* القرآن رسالةٌ كما أوضحتم، هذه الرسالة موجهةٌ لمن؟ للمسلمين فقط؟ أم لفئةٍ معينةٍ من الناس؟ أم مطلقةٌ لجميع البشرية؟
_ من الواضح بعد الرجوع إلى القرآن الكريم أنه لا يختص بجماعةٍ، {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ}، هو نازلٌ للجميع {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِّلنَّاسِ} وليس للمؤمنين، نعم يستفيد منه المؤمنون أكثر من غيرهم {وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ} لجماعةٍ خاصةٍ {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَاْ رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِّلْمُتَّقِينَ} يعني المرتبة الراقية والمتميزة من الهداية يختص بها من اهتدى بالقرآن {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدىً}، {قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَّشِفَاءٌ} ولكن في أصل أطروحة القرآن وفي أصل نزوله {وَأُوْحِيَ عَلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ}، وكان القرآن يمثل رسالةً وحجةً لكل من بلغ ووصل إليه هذا القرآن.
* إذن كيف نفسر توجه الخطاب القرآني إلى فآتٍ مختلفةٍ؟ مثلاً يتوجه الخطاب أحياناً إلى (المؤمنين)، و (الكافرين)، و (الناس)، و (أهل الكتاب)، و (نساء النبي (ص) )،… ) وفئاتٍ أخرى.
_ هذا يدل على الشمولية، لاحظ، هذا التعدد في الخطاب كاشفٌ عن الشمولية، فهو كما يخاطب نساء النبي (ص) يخاطب أهل الكتاب كما يخاطب النبي (ص)، يخاطب الناس كما يخاطب، وهكذا، والآيات الأخرى التي فيها خطابٌ عامٌّ مثلاً {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، كثيرٌ من الآيات فيها {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، كثيرٌ من الآيات مثلاً تقول هكذا للناس {الر * كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ}. لاحظ، لتخرج الناس، إجمالاً، فحينئذ يمثل القرآن خطاباً عاماً. نعم هناك آياتٌ قد تخاطب أناساً مخصوصين، وذلك لظرفٍ خاصٍّ وظرف النزول، ولكن هذا بحسب ما دلت عليه روايات النبي (ص) وروايات أهل البيت (ع) وتطبيقاتهم لهذه الآيات بأن الآية لا تختص بخصوص من نزلت فيه وهو ما يعرف بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، أو أن المورد لا يخصص الوارد فحينئذٍ، نستكشف أن القرآن الكريم وإن كان خطابه خاصاً إلا أنه يريد الأعم من هذا الخطاب.
* إذا كان القرآن رسالةً سماويةً شاملةً غير خاصةٍ ببعض الناس تخاطب البشرية جمعاء، هناك مسألةٌ، هذه الدعوى التي يدعيها القرآن بأنه للبشرية جمعاء، لكن هناك مسألةٌ يكثر طرحها هذه الأيام، وهي أنه إذا كانت هذه رسالةً عامةً لكل الناس، فهل للكل أن يفهمها؟
_ طبيعيٌّ جداً، ونحن نقول بأن القرآن لغته لغة الفطرة، صحيحٌ هو جاء بلسانٍ عربيِّ مبينٍ حتى يفهمه الأشخاصُ الذين يتعامل معهم الرسول (ص) فهماً جيداً، ولكن الحقائق التي جاء بها القرآن حقائق فطرية، القرآن جاء بالتوحيد كأسمى وأجلى حقيقةٍ وهي حقيقةٌ فطريةٌ، لا نشك في أن الفطرة تدعوا إلى التوحيد، جاء بالتسامي، جاء بالحسن العقلي، كثير من القضايا، أمر بالعدل والعدل قضيةٌ عقليةٌ، أمر بالإحسان، أمر بمكارم الأخلاق بشكلٍ عامٍّ، وهي أمور يتفق العقلاء ويتواطئون على حسنها ومدح فاعلها، ونهى عن قبائح الأفعال والصفات ومذمومها كالظلم والمنكر والباطل مثلاً وهذه أيضاً يتواطأ العقلاء عليها.
فلذلك نقول بأن القرآن لغته لغة الفطرة وطبيعة خطاب الأنبياء (ع) بشكلٍ عامٍّ، كما يقول أمير المؤمنين (ع): “ويثيروا لهم دفائن العقول”، العقول فُطِرَتْ على التوحيد وفُطِرَتْ على كل حَسَنٍ، وعلى حب كل جميلٍ وذم وبغض كل قبيحٍ، بالنتيجة هذه العقول تحتاج إلى استثارةٍ وإلى نحوٍ من التحفيز كما قال الأمير (ع)، فما علينا إلا أن نترجم معاني القرآن، ويمكن أن تترجم إلى أي لغةٍ وهو حاصلٌ بالفعل، فالنتيجة هي أن القرآن لما كان كتاباً يتحدث بلغة الفطرة؛ فالفطرة السليمة يمكن أن تفهمه ومن أراد أن يتعمق في القرآن الكريم يمكنه أن يتعرف على قواعد هذه اللغة وبالتالي يمكنه أن يتعامل تعاملاً مباشراً مع النص القرآني ومن لم يصل إلى حقائقها فيمكن أن يتعامل مع الترجمة فلا إشكال.
* إذن هناك مستويات في فهم القرآن الكريم.
_ هذا بحثٌ آخر، مسألة المستويات، نحن تارةً نتحدث عن مطلوبية الفهم وأنه لا شك ولا ريب في أن كل إنسانٍ يريد أن يتعرف على الدين أو على الإسلام إما فهماً مباشراً من خلال كونه ابناً للغة، أو فهماً غير مباشرٍ من خلال كونه يتعاطى مع ترجمة هذه المعاني، هذا بحث.
البحث الآخر أنه على صعيد اللغة الواحدة هناك مستوياتٌ، تارةً نتحدث عن الظاهر القرآني أيضاً، فربما تختلف الأفهام فيه، ومثالنا على ذلك عندما جاء أبان وسأل الإمام الصادق (ع): حينما سأله في قول الله تبارك وتعالى {وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً}، فقال له (ع): “يعني أنقذها من حريق أو غرق”، فقال له لو أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال له الإمام (ع): “ذلك تأويلها الأعظم”، يعني هناك مستوياتٌ في فهم الخطاب وتلك تختلف باختلاف صفاء النفس، كما عبر القرآن عن نفسه بأنه نورٌ، والنور هو الظاهر بنفسه والمظهر لغيره.
حينما تكون نفسية المتعامل مع القرآن أكثر صفاءً وأكثر شفافيةً فيكون استنباطه من الظاهر مختلفاً عن غيره، كما يقول الإمام علي بن أبي طالب (ع): “إنه لينظر إلى الغيب من ستر رقيق”، كان ابن عباس يرى الآيات من ستر رقيق، يعني كأنها تمثل وضوحاً تاماً عنده، هذا من جهة الظاهر، وهناك بحث في الباطن أيضاً، ويكون الحديث فيه، هل يمكن لأي أحدٍ أن يفهمه أم أنه وقفٌ على أهل البيت (ع) وبعض أهل الله المخلصين؟
* هل لغير الطالب الحوزوي إمكانية تعلم القرآن والتفسير مثلاً؟ وما ربط العلوم الأخرى كالفقه والأصول وعلم الكلام وغيرها بالقرآن؟ قلتم قبل قليل إن هناك أدوات وبعض الأمور التي إذا أراد الإنسان أن يتبحر في القرآن لا بدّ أن يتعلمها، فهل هي مقصورةٌ على الطالب الحوزوي أم لا؟
_ القرآن الكريم كتابٌ للناس، وهذا يعني أن الناس عندهم قدرةٌ على فهمه، ولكن الآن نحن بما أننا لسنا أهل اللغة العربية، فاللغة العربية كانت موجودةً عند العرب العاربة الذين نزل القرآن في بيئتهم وبلغتهم، نحن نحتاج لأن نتعرف على قواعدها، وهذا لا يختلف فيه طالب الحوزة مع غيره، فإذا أراد أي طالبٍ أن يعرف القرآن وظواهر القرآن لا بد أن يعرف اللغة وقواعدها، وبطبيعة الحال كلما زاد تعمقه في اللغة وزادت إحاطته بعلوم اللغة نتج عن ذلك إحاطةٌ أكبر بفهم الخطاب القرآني، نعم هناك علومٌ متعددةٌ كلما أحاط بها الباحث كان لها أثرٌ على فهمه للقرآن، مثلاً هناك العلوم الخاصة بالقرآن الكريم التي تُعْرَفُ بعلوم القرآن، وكثيرٌ منها لها ارتباط بفهم القرآن كالعام والخاص مثلاً الذي قد نجده بشكلٍ مفصلٍ في علم الأصول، المطلق والمقيد، المجمل والمبين، هناك محكمٌ ومتشابهٌ.
هذه أمور حينما يطلع عليها الباحث تزداد قدرته على التعاطي مع القرآن، يعني ذكر علماء علوم القرآن إن المفسر الذي يريد أن يقدم تفسيراً للقرآن مثلاً، يقولون هذا يحتاج إلى خمسة عشر أو ستة عشر علماً، منها مثلاً علم البلاغة بأقسامه المختلفة المعاني البيان والبديع، النحو، علم الصرف، علم اللغة، المعاجم والمفردات، علوم الأصول والحديث والدراية والفقه، ذكروا ما يقرب من خمس عشرة علم، لكن مع ذلك نقول الآن قد يحتاج المفسر إلى أكثر منها.
الآن قد يحتاج إلى أن يحيط ببعض العلوم العقلية مثلاً، وقد يحتاج إلى أن يحيط ببعض العلوم الأخلاقية مثلاً، يحتاج للدخول إلى بعض العلوم الاجتماعية، إلى بعض العلوم النفسية، وبشكلٍ عامٍّ، كلما ازدادت ثقافة المفسر وازدادت دائرة معرفته وعلمه بالعلوم والثقافات المختلفة، سيوفق ويكون له بالتالي تأثيرٌ كبيرٌ على ما ينتجه من تفسير.
ألا ترى ما أنتجه العلامة الطباطبائي (قدّس سرّه)؟ لا شك أن معرفته الفلسفية وعمق دخوله في البحوث العقيلة أثر على نضج ما أنتجه من تفسير، أقول هذا لمن أراد أن يفسر، لكن لمن أراد أن يفهم الفهم الأولي، فقد لا يحتاج إلى هذه المنظومة العلمية والمعرفية لفهم النص، يعني هناك كثيرٌ من الناس قد يفهم أوليات اللغة ومن ثم يتمكن أن يفهم لا أقل مستوىً خاص من القرآن الكريم وهذا متيسرٌ لكل من يعرف اللغة ويفهم قواعدها الأولية.
* بعد الكلام عن القرآن وموقعيته في المنظومة الإسلامية، وإمكانية فهمه من قِبَلِ الناس، ننتقل إلى بعض ما يتعلق بالمجتمع والقرآن. في نظركم هل يهتم المجتمع الإسلامي اليوم بالقرآن الكريم كما يجب؟
_ أنا أقول دائماً بأننا نحتاج إلى استبيانٍ لفهم هذه الحالة، نسأل الناس أنهم بأي مقدارٍ يتفاعلون مع القرآن؟ بأي مقدارٍ يقرؤونه؟ بأي مقدارٍ يتدبرون فيه؟ بأي مقدارٍ يعملون به؟ بأي مقدارٍ يحققونه في نظم حكمهم؟ بأي مقدارٍ يستفيدون منه منهجاً في حياتهم؟ نحن بالنظرة الأولية نجد بأن الناس ينطبق عليهم النص الذي فيه شكوىً للنبي (ص) {وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً}، ونجد إن الهجران في جميع هذه المستويات، بحيث لو تسأل الناس، كم مرةً في السنة يقرؤون القرآن؟ تجد قليلاً من الناس.
* في شهر رمضان….
_ ربما، أحسنتم بعض الناس يقرأ القرآن في شهر رمضان، بعض الناس حتى في شهر رمضان ربما لا يقرأ القرآن، أما بقية السنة فلا، فضلاً عن المراحل الأخرى التي تعقب القراءة، القراءة تمثل مقدمةً للفهم، تمثل مقدمةً للعمل تمثل مقدمةً لتحكيم القرآن في الحياة العامة، فلذلك من المؤسف شديد الأسف أنك تجد حالةً من الهجران للقرآن الكريم، وقد يتمثل ذلك حينما يطلب الطالب درساً في التفسير ربما لا يجد من يُدرّسه، وحينما يبحث عمن يدرسه علوم القرآن لا يجد، وهذا كاشفٌ من الكواشف الدالة على أن الاهتمام بالقرآن نادرٌ وقليلٌ.
* في بلدنا البحرين يتجه عددٌ كبيرٌ نسبياً من الشباب والشابات ومن جميع الفئات العمرية إلى تعلم التجويد والحفظ، وكأنما أهملت علوم القرآن والتفسير وغيرها من علوم وأمور مرتبطة بالقرآن الكريم.
هل هو ذنب المجتمع نفسه؟ أم هو تقصير الفئة المعنية بحمل القرآن وإيصاله للناس؟ فكما ذكرتم بأن الطالب عندما يطلب درساً للتفسير وعلوم القرآن فلا يجد، فكيف يطالب الناس في المجتمع بالاهتمام بهذه العلوم وعدم الاتجاه فقط للحفظ والتجويد مثلاً؟ فما تعليقكم؟
_ نعم، هذه الظاهرة تحتاج إلى تثقيفٍ، فالتجويد والحفظ والتلاوة بحسب تصوري تمثل مداخل للارتباط بالقرآن الكريم، قد يبدأ الطالب والمتعامل مع القرآن الكريم، قد يبدأ من الحفظ والتجويد لكنه يعيش حالةً من العشق إلى القرآن بعد ذلك، هذه تحفزه لأن يكون مفسراً، لأن يكون حاملاً للقرآن، محركاً للقرآن، مفعّلاً للقرآن الكريم، في حياته وفي حياة مجتمعه.
فلذلك أقول بأن هذه الخطوة جيدةٌ وفي نفس الوقت نحتاج إلى تثقيف الناس وتحريك حالة الحس تجاه القرآن، وهذه نستفيدها من أمير المؤمنين (ع) حينما يوصي أولاده قائلاً: “الله الله في كتاب ربكم لا يسبقنكم بالعمل به غيركم”، يعني هناك حالةٌ من التأخر عندنا والسبق عند غيرنا، فإنهم لا يعملون بالقرآن وإنما يعملون بمضامينه، نجد كثيراً من المعارف التي توجد في كتاب الله قد فعَّلَها غيرُنا وهم لا يؤمنون بالقرآن، فكأنهم قد سبقونا بالعمل به مع أننا أولى وأجدر بالسبق في العمل.
وجود الجمعيات، هذه بادرةٌ جيدةٌ – الآن ربما ثلاث أو أربع جمعيات – هذه تمثل بادرةً طيبةً لبث الثقافة القرآنية وبث الروح القرآنية، وكذلك أن يهتم مجموعةٌ من العلماء والمبلغين ومن لهم وجودُ اجتماعيٌّ مؤثرٌ، هذا لا شك في أن له أثرٌ كبيرٌ للارتباط بالقرآن الكريم، كما نجد هنا في الجمهورية الإسلامية أنه من بداية الثورة إلى الآن، أو خلال هذه العشرين أو الاثنين وعشرين عاماً نجد إن حركة التعاطي والتعامل مع القرآن أصبحت قويةً وكبيرةً جداً على مستوى جميع أنحاء إيران، وما ذلك إلا من خلال وجود جمعياتٍ وجماعاتٍ تروج هذا المعنى.
نعم، صحيحٌ أنهم بدؤوا بالتجويد والقراءة لكن هذا دفعهم أيضاً إلى الاهتمام التفصيلي بالتفاسير ونشر العلوم والثقافات القرآنية، الآن نجد ربما أكثر من أربع أو خمس دوريات باللغة الفارسية تهتم بشؤون القرآن على مستوى علومه وعلى مستوى تفسيره وغيرها، فنسأل الله تبارك وتعالى بأن يكون في بلدنا البحرين هذا النحو من الاهتمام الذي ينمو على مر السنين إن شاء الله.
* سيدنا سؤالٌ توجهون فيه كلمةً أخيرةً للطلاب ولمن يتوق لينهل من المعارف القرآنية.
كيف للطالب والمهتم أن ينمي معارفه القرآنية على مستوى علوم القرآن وتفسيره وغيرها في ظل وجود الدروس المتعددة لديه؟ وكما قلتم، ندرة الأساتذة في هذا المجال؟
_ الاهتمام هو الذي يمكن الشخص من ذلك، ببرمجة وقته وإعطاء القرآن جزءاً منه سيصل لنتائج طيبةٍ، مثلاً لو قرر الطالب أن يكون في الحوزة لمدة عشرين سنةٍ مثلاً، لكان عنده أكثر من سبعة آلاف يوم،ٍ لو خصص لكل آيةٍ من القرآن يوماً يتدبرها وينظر في تفسيرها، لغطى آيات القرآن الـ6236 مثلاً، فالاهتمام هو الذي يمكن الإنسان من ذلك.
جميع الحقوق محفوطة لـ جمعية اقرأ لعلوم القرآن