السيد هاشم الموسوي
تتعدد أشكال الحرب على دين الله تعالى فتأخذ شكلاً علنياً تارة وأخرى سرياً، ظاهراً تارة ومتستتراً أخرى، حرب على العقيدة والهجوم عليها بالأسهم الفكرية، وحرب على الأخلاق الإسلامية بنشر الرذيلة والتحلل الخلقي في المجتمع، وبعد أن أرانا الزمن الكثير من تلك الحروب خرج علينا مؤخرا تيري جونز بحلقة من حلقات هذه الحرب ورفع راية الشيطان معلناً عزمه على حرق المصحف الشريف. فكان لا بد لنا أن نذكر بالقرآن المعجزة، والقرآن الأمانة العظمى،والقرآن الثقل الأكبر، والقرآن الدستور، والقرآن النور الذي نخرج به من الظلمات إلى النور…لا بد من أن نذكر بأن القرآن خط أحمر تفديه الأرواح وترخص له الدماء.
دراسة الدوافع
ما الدافع الذي دفع هذا الشيطان البشري لهذه الخطوة؟ البعض يقول أن التحرك جاء في ظاهره مسيحياً ويقف وراءه مخطط صهيوني بهدف خلط الأمر الديني بالأمور السياسية، وقد ذكرت بعض وكالات الأنباء خبراً عن تمزيق القرآن الكريم من قبل بعض المستوطنين الصهاينة.
ويمكن أن تفسر هذه الخطوة الشيطانية بالرغبة في الشهرة لمن لم يكن له نصيب من الشهرة ولا سبيل له إلى الشهرة عن طريق العلم أو الرياضة أو التجارة أو غير ذلك، فدفعه هذا الإفلاس في كل الميادين إلى أن يكون من أشهر الأشخاص وذلك بتفجير هذه القنبلة النارية الجحيمية، والبعض يرجع هذا الأمر إلى الفشل والإحباط في محاربة القرآن والإسلام، كما قال آخرون أنه يهدف إلى إشاعة حالة من الترهيب من الإسلام، فيما يربطه البعض بحالة الفشل السياسي حيث يبحث الذي فشل سياسياً وخسر كل معاركه التي يخوضها عن نصر موهوم وذلك بحرقه للقرآن الكريم، ويرى البعض أن هذه الخطوة هي حلقة من سلسلة ابتدأت في الزمن المعاصر بكتاب الشيطان سلمان رشدي (الآيات الشيطانية) وامتدت إلى الرسوم الكاريكاتورية المسيئة وامتدت إلى هذه الخطوة وربما تأتي حلقات أخرى في هذا الميدان بخطط مدروسة ومتعمدة وتقف وراءها أصابع خفية.
توفير الغطاء
في الواقع أن هذا الشخص قد تم تهيئة الأمر له من قبل مواقع القرار في البلد الذي يعيش فيه، وإن تظاهر بعض المسؤولين بأنهم لا يؤيدون هذا الأمر إلا أن السماح له بهذه الطريقة الشنعاء والخرقاء والعوجاء بطرح ما يريد طرحه يدل على حالة من من الحماية والتأييد المبطن لمثل هذه الأعمال التي أقل ما يجب أن يقال عنها أنها تهدد حالة السلم العالمي وتؤسس لنشر الكراهية بين أصحاب الديانات السماوية، فأمريكا التي تشن الحروب على الدول الإسلامية وتغزوها بحجة محاربة الإرهاب تفتح نوافذ نيران جهنم على الكرة الأرضية بهذه الخطوات البائسة واليائسة لتذكي نيران الشقاق والتناحر.
ردود الفعل
لا بد من ردود فعل غاضبة من جهة وواعية من جهة أخرى، غاضبة على التعدي على كتاب الله الذي لا يقل شأنا عن ناقة الله التي غضب الله تعالى عندما عقرها أشقى الأولين أنزل الله عذابه عليه وعلى قومه، وواعية من جهة أخرى حيث لا يتم التعدي على أبرياء المسيحيين الذين لم يشاركوا هذا المجرم في جريمته، وهذه الخطوات الشيطانية تهدف إلى توسيع الهوة وتنفير المسلمين من المسيحيين والمسيحيين من المسلمين، وإننا لنثمن مواقف المسيحيين الذين اعترضوا ورفضوا وأدانوا واستنكروا هذه الخطوة.
محاولات سابقة
لم تكن هذه الخطوة في محاربة القرآن هي الخطوة الوحيدة وليست الأولى، فمنذ أن نزل القرآن على نبينا محمد (ص) والمحاولات تترى الواحدة تلو الأخرى، فالنبي محمد (ص) قد اتـُهم بالشعر والكهانة والسحر وغير ذلك، وقد كانت عمليات التشويش والتشويه مستمرة من قبل أعداء القرآن، قال تعالى : (وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ) فصلت:26، فما غلبوا في ذلك الزمان وما غلب الذين ساروا على دربهم في هذا الزمان، والانتصارات القرآنية متجددة في شتى ميداين العلم والإعجاز بكل أنواعه.
ونقرأ في التاريخ عن الوليد وحادثة المصحف : دعا الوليد بن يزيد ذات ليلة بمصحف، فلما فتحه وافق ورقةً فيها: “واستفتحوا وخاب كل جبارٍ عنيدٍ. من ورائه جهنم ويسقى من ماءٍ صديدٍ”، فقال: أسجعاً سجعاً! ثم أخذ القوس والنبل فرماه حتى مزقه، ثم قال:
أتوعد كل جبار عـنـيدٍ فها أنا ذاك جبار عنـيد
إذا لاقيت ربك يوم حشر فقل لله مزقني الولــــــــيد
قد تتبدل الوجوه من تيري جونز إلى الوليد بن يزيد، ومن سلمان رشدي إلى أبي لهب وأبي جهل، ويبقى أعداء القرآن في مسيرتهم العدائية والغيورين عليه في مسيرتهم الدفاعية طول الزمان في تجسيد الصراع الحق والباطل الذي سينتهي بانتهاء الباطل، قال تعالى: (أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ) سورة الرعد:17، ولكن كيف يفهم هذه الأمثال من أعمى الله بصره وأصر على جهله وحارب قرآناً لم يقرأه قط، وهل سيؤثر القرآن على أناس قال عنهم: (مَن يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ * وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ ) الأعراف: 178-179.
كيف وصف القرآن الكريم نفسه
لن نجد من يصف لنا القرآن خيراً من القرآن نفسه فكيف وصف القرانُ( بالرفع) القرآنَ ( بالفتح) نقف مع بعض الآيات الكريمة في هذا المجال:
)يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ( يونس : 57- 58، وقال تعالى : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ) وهذا القرآن لا بد له أن ياخذ تأثيره في المجتمع، وقد توعد الله تعالى الكافرين والمكذبين به فقال : ( وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) البقرة : 39، كما انه توعد الذين يكتمون ما أنزل الله بهذه اللهجة الشديدة، قال تعالى:(إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ) البقرة 174، وفي المقابل نرى أن الله تعالى يتلطف بألفاظه على الذين يؤمنون بآياته ويتعظون بها بأعذب الألفاظ وأجملها حتى لو اعترض هذا الإيمان ذنب بجهل أعقبته التوبة ، قال تعالى:)وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(الأنعام : 54 وإن المؤمن ليشعر بلذة ما بعدها لذة عندما يكون من هؤلاء الذين كتب الله لهم الرحمة على نفسه وإنها من أعظم النعم الإلهية على الإنسان الذي يشعر أنه سيكون في ظل الله تعالى يوم لا ظل إلا ظله.
مواجهة المؤامرة
إن المواجهة الحقيقية لهذه المؤامرة تكمن في الالتزام الحقيقي بالقرآن الكريم وعدم الاقتصار على الاحتجاجات الغاضبة والمظاهرات الحاشدة، الأضواء تسلطت مرة أخرى وبصورة واضحة وجلية على القرآن الكريم وهي فرصة للمسلمين في التعريف بعظمة القرآن الكريم لكل الشعوب.
إهانة القرآن
قال أبو عبد الله (عليه السلام) متحدثاً عن القرآن الكريم : “… ثم ينتهي حتى يقف عن يمين العرش، فيقول الجبار: وعزتي وجلالي، وارتفاع مكاني، لأكرمن اليوم من أكرمك، ولأهينن من أهانك.” كلام الإمام (ع) يتطرق إلى الإكرام والإهانة، الشخص الذي يهين القرآن – فضلاً عن تحديه للقرآن الكريم- سيكون معرضاً للإهانة يوم القيامة، والشخص المهان يكون في حالة من الضعف والتردي النفسي والعذاب الروحي إذا كانت الإهانة صادرة من عبد مثله، فكيف إذا كانت الإهانة صادرة من خالقه تعالى وفي ذلك اليوم العظيم ومن أجل ذنب عظيم عظيم هو إهانة أعظم كتاب على وجه الأرض على الإطلاق، والأمر لم يقف عند الإهانة اللفظية بل التحدي العلني والوقاحة الشيطانية في التحدي والتعدي والسقوط والتردي إلى أسفل السافلين على كل المستويات. والإمام يتحدث عن إكرام القرآن الكريم، ومن إكرام القرآن الكريم الأخذ بما يقول وتطبيق نظريته على الواقع والدفاع عنه والغيرة عليه والتصدي لمن اتخذوا الصد عن سبيل الله بشتى الوسائل منهجاً لهم وأعدوا خططهم ومؤامراتهم على القرآن الكريم والإسلام العظيم. والرسول الأعظم (ص) يقول: “من أعطاه الله القرآن فرأى أن رجلاً أعطي أفضل مما أعطي فقد صغر عظيماً وعظم صغيراً.”2 مجرد الشعور بأن أي كلام آخر أفضل من القرآن يمثل خللاً كبيراً في العقيدة وقلب لموازين الحق تجاه القرآن الكريم، فما أعظم ما نسمع وما أجل ما نرى من الجرأة على الله تعالى.
الحرق المعنوي
دأبت القوى الكافرة والمعادية إلى حرق القرآن حرقاً معنوياً منذ سنين وذلك بإبعاد الأمة عن تعاليمه وإرشاداته ومواعظه عبر خطط مدروسة ومؤسسات منظمة وهذا ما يعبر عنه القرآن الكريم في كثير من آياته بـ (الصد عن سبيل الله) فقد يضل الإنسان نتيجة خلل في العقيدة أو السلوك، أما من يمارس هذا العمل الإضلالي تجاه المجتمع عبر إعاقة ومحاربة المنهج الإلهي فهو ممن يصدون عن سبيل الله، وعمليات الحرق المعنوي للقرآن عبر فصله عن قواعد الأمة مستمرة منذ سنين طويلة، وهذه الهجمة السلوكية الأخلاقية تستهدف هذا الحرق الذي يجب أن يواجه بمظاهرات صاخبة في نفس كل إنسان عبر التمسك بالقرآن الكريم ومنهجه.
أعداء ما جهلوا
إن من أبسط الأمور عندما يريد الإنسان أن يتخذ موقفاً صائباً أن يكون على علم بالأمر الذي سيتخذ موقفاً منه، وإن من أكثر سلبيات اتخاذ الموقف هو جهل الأمر الذي سيتخذ الإنسان موقفه منه، قال الإمام علي (ع): ” الناس أعداء ما جهلوا” وأي عداء وأي جهل أكثر من أن يعلن حقير أنه سيحرق المصحف الشريف، ولا يكتفي بحرقه لوحده بخفاء وسرية لو كان هدفه الانتقام من القرآن، ولكنه يعلن قبل فترة كافية لإثارة الفتن وإيقاظ الضغائن بين الشعوب وفي كل وسائل الإعلام أنه مصرٌّ على هذا الأمر، والغريب في الأمر أنه يصرح ويعلن أنه لم يقرأ القرآن ولكنه مصرٌّ على معاداته وحربه وحرقه، ومن هنا نركز على قضية ” أعداء ما جهلوا” التي طرحها الإمام علي (ع) في هذا الحديث، فكيف تعادي كتاباً لم تقرأه ولا تدري ماذا يحتوي؟ ولا يقف الأمر عند العداء بل يتعدى إلى شن حرب على الله ورسوله من خلال استفزاز مشاعر أكثر من مليار مسلم، بل استفزاز مشاعر كل من يحب أن يرى السلام والأمان والمودة والمحبة قد أخذت مأخذها بين شعوب العالم، القرآن الذي يحرص على عدم استفزاز أصحاب العقائد الباطلة بالعنف اللفظي إن صح التعبير فيقول تعالى : (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّواْ اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ) سورة الأنعام: 108، ينهى الله تعالى عن سب هؤلاء – رغم كونهم على الباطل والضلال – حتى لا يتم نبش مكامن الجهل عند هؤلاء الجهلة فيتخذوا موقفاً متسرعاً جاهلاً وردة فعلٍ غير محسوبة بسب الله عز وجل، ولكننا نرى في المقابل أن هذا العدو – من سوء حظه – لا يراعي لهذا الكتاب حرمة ولا يقيم له وزنا.
جميع الحقوق محفوطة لـ جمعية اقرأ لعلوم القرآن