فضيلة الشيخ حسين الطويل
إنّ من أروع وأجمل الفصول، وأحبها إلى النفس هو فصل الربيع حيث تتكاثر فيه الكائنات، وتزدان الورود، وتينع الثمار، وتأخذ الدنيا أشكالًا من الفرحة، والبهجة، وتتفتح الأزهار من بين عطاء نسماته العذبة من أكمامها مستقبلةً الحياة الجديدة بكل أمل وتفاؤل لأيام تزخر فيه الأمنيات.
هو الفصل الذي تشرق فيه الشمس من مكمنها الدافئ لتضيء بكل حنان، وشوق طريق الذين يبتغون كسر حاجز الرتابة، والإفاضة من سحر الطبيعة، ووحي معالمها الآسرة التي تضفي نغمًا عذبًا لتستأذن القلوب ملامِسة شغافها بحب الجمال الأخّاذ، والعطاء المترامي الأطراف، والأطياف.
لاشك أنّ للربيع مذاقًا خاصًا من بين الفصول الأربعة حيث تُغرِّد فيه الطيور بأنغامها الثرّة بكل حرية وانسجام مع ألوان الطبيعة، وإبداع قلم السماء لتبدأ حياتها بشكل أكثر حيوية، فتبني أعشاشها، وترمم ما قد عبثت رياح الشتاء فيه فغيّرت، وبعثرت معالمه.
إنّه الربيع – بضرس قاطع- الذي تصدح فيه كل معاني الحب، والسلام، والأمان، فكيف به لو كان هذا الربيع ربيعًا منطلقًا من وحي القرآن، ومن بين دفتي كتاب الله المجيد؟ لاشك سيكون له لون آخر، وطعم، ومذاق يختلفان عمّا تحدثه معاني ربيع الطبيعة.
إذ أنّ القرآن له ربيع تمتد جذوره، ونسماته إلى الأعماق لتسبر أغوار النفس إذا ما أعطاه الفرد منّا اهتمامه، وعشقه، وهيامه بتلك المبادئ والآلاء التي يسديها لِكل مَن يتخذه محرابًا، ومتراسًا لحياته.
ومن هنا جاءت الأحاديث من أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة تحث على اتخاذه منهاجًا، ووسيلة لإضاءة الطريق بقناديل آياته الزاهرة، ووحي ألفاظه الثجّاجة، ذلك لأنّه وكما قال أمير المؤمنين(ع): (تعلموا القرآن، فإنّه ربيع القلوب) ( وسائل الشيعة12/244-ح2).
ومن أجل عدم خلط الأوراق فيما تدعو له بعض الفضائيات، ومَن يقوم على محاولة المسّ بكتاب الله قد ورد الحثّ الشديد من القرآن نفسه، والسنة الشريفة على تدارس القرآن، والتدبر في معانيه، والتفكّر في مقاصده، وأهدافه خاصة وأنّ حلقات الذكر الحكيم – في شهر المغفرة، والرحمة- تنتشر في أرجاء البلاد تاليةً آياته آناء الليل، وأطرف النهار. إنّ القرآن نفسه يحث على تلاوة آياته إذ يقول: (أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها) سورة محمد/24، والتدبر في الآيات فرع تلاوته.
كما وتعضد السنةُ الشريفة موقفه الشامخ هذا، حيث ينثرُ إمامُ الفصاحة والبلاغة أميرُ المؤمنين(ع) أروع معاني التعلّق بكتاب الله ليقول مكملًا دوره الرسالي: (واعلموا أنّ هذا القرآن هو الناصح الذي لا يغش، والهادي الذي لا يضل، والمحدث الذي لا يكذب، وما جالس هذا القرآنَ أحدٌ إلا قام عنه بزيادة، أو نقصان: زيادة في هدى، أو نقصان من عمى).( نهج البلاغة. د.صبحي الصالح- الخطبة:176)
إنّ من سلبيات أي مجتمع هو الابتعاد عن محاور ثقافته، وأهدافها، وينابيعها، وحضارته الناصعة المعطاءة التي ترسم له خطاه بكل ما تمليه أبجدية الحياة، وغاية نشوئها، وأبعاد معطياتها. إنّه لمّا نأى بعضُ المسلمين عن نبع حضارتهم، وركضوا ولهثوا وراء سراب حضارات متهالكة ارتطموا وبكل عنف بجدار الحقيقة عندما واجهوا الحياة وشظفها، وخارت قواهم في أولى مراحل الغربة، ومحطاتها عمّا ترشدهم إليه الذات، والفطرة.
أما مَن عزم على رحلة العودة منهم ليتفهّم وبشكل لا رجعة فيه عن طريق القرآن الذي يهدي للتي هي أقوم، فقد وجد ذاته التي ضاعت في زحام الأوهام المتلاطمة ليعود مطمئنًا لا خائفًا، ولا وجلًا، وأينعت مع كل ذلك فطرته السليمة التي لم تنأى وتبتعد كثيرًا عن مصادر قوتها، بل بقيت مع غربتها متجذرة في نفوسهم تريد فقط مَن يرشدها إلى بوصلتها من جديد، ويأخذ بيدها نحو أصالتها، ولمّا وجدتها رجعت تحلِّق بعنف في سماء بيئتها الطبيعية التي استنشقت فيها نسماتها، واحتضنها ذاك التراب بكل ذراته ليذكّرها، ويوقظ فيها معاني الانتماء لأول يوم جاءت فيه إلى هذا الوجود عبر قطار من الظلمات.
كثير هم الذين اتخذوا القرآن مهجورًا، وضلوا الطريق ليحلِّقوا في عالم من الضبابية ظنًّا منهم أنّهم يواكبون العصر والتطور ليصطدموا أخيرًا وعند نقطة الصفر بالواقع عندما يُوجَّه لهم – وهم المسلمون بالهوية فقط- سؤالٌ يتعلق بإعجاز القرآن، وبلاغته اللامتناهية، أو يستمعون إلى إثارة مغلّفة بغلاف ثقافي من فضائية هنا، ومجلة هناك فتميد بهم الأرضُ من تحت أرجلهم، ليصرّحوا ومن دون هوادة أنّ الإسلام، والقرآن غير قادرَين على مواكبة العصر، ومعطيات الزمن!! إنّ القفر، والتصحّر، لم يكونا يومًا حكرًا على مستوى المال فقط، بل برهنا على أنّهما يجريان أيضًا على مستوى الثقافة، وما يحمله أيُّ فرد من ضعف الإيمان، والعقيدة.
فمتى لم يتسلح أيُّ شخص بالمبدأ الذي يعتقده، ويؤمن به فلن يجد في طريقه سوى سراب بقيعة لن تقوى على انتشاله ساعة الجوع والمخمصة، وساعة الإفلاس الثقافي عندما يتعرض لأيّ هزّة على مستوى الفكر والعقيدة، وعندها لاشك لن يتهم عجزه، وتقصيره في التحصّن، والتذرّع ليرمي حينئذٍ بكَلِّه، وخوره على شماعة الدين التي طالما تحملت ترّهات مثله في ساعة من ساعات عجزهم، والاصطدام بالحقيقة التي لا مفرّ منها بأنّه صفر مهما تكن الآلة الضاربة أمام تحديات الزمن، وما تفرزه من متغيرات على الساحة الإنسانية.
ولذا فإنّ الرجوع إلى ظلال القرآن سواء في شهر رمضان المبارك، أو غيره من الأيام هو ضرورة ملحّة تفرضها العقيدة، ومنطلقات الهوية التي ننتمي إليها.
جميع الحقوق محفوطة لـ جمعية اقرأ لعلوم القرآن