سماحة الشيخ عيسى عيد
الحديث متواصل في استعراض الأحاديث التي وردت عن أهل البيت (عليهم السلام) في حقيقة مصحف فاطمة (عليها السلام).
فمن ذلك ما ورد عن حماد بن عثمان قال: سمعت أبا عبدالله (عليه السلام) يقول: “تظهر الزنادقة في سنة ثمان وعشرين ومائة، وذلك أنّي نظرت في مصحف فاطمة (عليها السلام)، قال: قلت وما مصحف فاطمة (عليها السلام)؟ قال: إنّ الله تبارك وتعالى لمّا قبض نبيه (صلى الله عليه وآله) دخل على فاطمة (عليها السلام) من وفاته من الحزن ما لا يعلمه إلاّ الله عزّ وجلّ، فأرسل الله إليها ملكًا يسلّي غمها ويحدثها، فشكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فقال: إذا أحسست بذلك وسمعت الصوت قولي لي، فأعلمته بذلك فجعل أمير المؤمنين (عليه السلام) يكتب كلّما سمع، حتى أثبت من ذلك مصحفًا. قال: ثم قال (عليه السلام): أما انه ليس فيه شيء من الحلال و الحرام، ولكن فيه علم ما يكون”.
دلالات الحديث : لهذه الحديث عدة دلالات يشترك في بعضها مع سابقيه، منها: أن مصحف فاطمة مما اختص الله تبارك وتعالى الأئمة بعد فاطمة (عليها السلام) بعلمه، وكما ذكرنا سابقًا انه حتى المقربين من حواري الأئمة (عليهم السلام) لا يعلمون به إلاّ بمقدار ما يطلعهم الأئمة عليه.
منها: أن حزن الصديقة فاطمة (عليها السلام) أوجب أن يبعث الله إليها ملكًا يسلّيها، ويأخذ بخاطرها بإخبارها عن أبيها ومكانته في الجنة، وهذا أمر يبين مكانة فاطمة (عليها السلام) من الله جلّ وعلا.
منها: إن مصحف فاطمة ليس مصحف وكتاب أحكام فقهية، ولكنه كتاب أخبار، فيه علم ما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة.
منها: ورد في الحديث أن فاطمة (عليها السلام) شكت ذلك إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، بمعنى أنها أخبرت أمير المؤمنين بما كان من أمر الملك، لمجرد الاخبار، وليس لرعب أو خوف دخلها حال صحبته لها و انفرادها به، فإن ذلك لا يناسب مقامها (عليها السلام).
هذا من جهة ومن جهة أخرى أن فاطمة (عليها السلام) وهي العالمة بمقام أمير المؤمنين، وبمكانته عندها، ومن جهة قيموميته على المنزل فلا بد أن يعلم بكل ما يحصل في المنزل من حدث غريب، ومن أمر غير مألوف.
ومن ذلك ما ورد عن أبي بصير قال: “سألت أبا جعفر محمد بن علي (عليهما السلام) عن مصحف فاطمة (عليها السلام)، فقال: أُنزل عليها بعد موت أبيها، قلت: ففيه شيء من القرآن؟ فقال: ما فيه شيء من القرآن، قلت فصفه لي؟ قال: له دفتان من زبرجدتين على طول الورق، وعرضه حمراوين، قلت جعلت فداك فصف لي ورقه؟ قال: ورقه من در أبيض قيل له: كن فكان، قلت جعلت فداك فما فيه؟ قال: فيه خبر ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، وفيه خبر سماء سماء وعدد ما في السماوات من الملائكة وغير ذلك، وعدد كل من خلق الله مرسلًا وغير مرسل وأسماؤهم، وأسماء من أرسل إليهم، وأسماء من كذب ومن أجاب، وأسماء من خلق الله من المؤمنين والكافرين من الأولين والآخرين، وأسماء البلدان وصفة كل بلد في شرق الأرض وغربها، وعدد ما فيها من المؤمنين، وعدد ما فيها من الكافرين، وصفة كل من كذّب، وصفة القرون الأولى وقصصهم، ومن ولي من الطواغيت ومدة ملكهم وعددهم، وأسماء الأئمة وصفتهم، وما يملك كل واحد واحد، وصفة كبرائهم وجميع من تردد في الأدوار.
قلت جعلت فداك وكم الأدوار؟ قال خمسون ألف عام، وهي سبعة أدوار، فيه أسماء جميع ما خلق الله تبارك وتعالى وآجالهم، وصفة أهل الجنة، وعدد من يدخلها وعدد من يدخل النار، وأسماء هؤلاء وهؤلاء، وفيه علم القرآن كما انزل، وعلم التوراة كما انزلت، وعلم الانجيل كما انزل، وعلم الزبور، وعدد كل شجرة ومدرة في جميع البلاد.
قال أبو جعفر (عليه السلام): و لما أراد الله تعالى أن يُنْزل عليها جبرئيل وميكائيل واسرافيل (أمرهم) أن يحملوه فينزلون به عليها، وذلك ليلة الجمعة من الثلث الثاني من الليل، فهبطوا به وهي قائمة تصلي، فما زالوا قياما حتى قعدت، ولما فرغت من صلاتها سلموا عليها وقالوا: السلام يُقرِئُكِ السلام، ووضعوا المصحف في حجرها، فقالت: لله السلام ومنه السلام وإليه السلام، وعليكم يا رسل الله السلام، ثم عرجوا إلى السماء، فما زالت من بعد صلاة الفجر إلى زوال الشمس تقرأه حتى أتت على آخره، ولقد كانت (عليها السلام) مفروضة الطاعة على جميع من خلق الله من الجن والإنس والطير والوحش والأنبياء والملائكة.
قلت: جعلت فداك فلمن صار ذلك المصحف بعد مضيها؟ قال: دفعته إلى أمير المؤمنين (عليه السلام)، فلما قضى صار إلى الحسن ثم إلى الحسين (عليهما السلام)، ثم عند أهله حتى يدفعوه إلى صاحب الأمر، فقلت: أنّ هذا العلم كثير، قال: يا أبا محمد، إنّ هذا الذي وصفته لك لفي ورقتين من أوله، وما وصفت لك ما في الورقة الثانية ولا تكلمت بحرف واحد”.
بعد هذه الجولة من الاخبار تتضح الحقائق التالية:
أولًا: إنّ مصحف فاطمة (عليها السلام) إما أن يكون من إملاء ومحادثة الملائكة لفاطمة (عليها السلام) وكتابة علي (عليه السلام)، كما عليه أكثر الروايات، وإما أن يكون كتابًا سماويًا مخصوصًا لفاطمة (عليها السلام) نزلت به الملائكة عليها كما في الحديث الاخير.
ثانيًا: يتبين من خلال كل الروايات أن ما في مصحف فاطمة اختص به أهل البيت (عليهم السلام) لعدم قدرة العقول البشرية على تحمل ما فيه من العلوم.
ثالثًا: انه يعتبر من مصادر علوم أهل البيت (عليهم السلام) الخاصة بهم، وهذا هو معنى قول الامام الصادق عليه السلام “وفيه ما يحتاج الناس إلينا ولا نحتاج لأحد”.
السلام عليك يا بنت رسول الله ورحمة الله وبركاته، اللهم ارزقنا في الدنيا زيارتها وفي الاخرة شفاعتهـ إنه على كل شيء قدير.
* من خطبة الجمعة الأولى بجامع كرزكان – 11 أبريل 2014م.
جميع الحقوق محفوطة لـ جمعية اقرأ لعلوم القرآن