الشيخ جعفر علي المالكي
مقدمة
يُعتبر القرآن الكريم هو المقياس الأسمى في دقة التعبير والاستفادة من الألفاظ بمقدارٍ يفي بالغرض وهو إيصال الحقيقة المتمثلة في الوقائع التي يذكرها، أو في الأحكام التي ينبِّه إليها الإنسان، وذلك لترشده في حياته، وتُسيِّر حياة الإنسان إلى أسمى حياة مرجوّة، ومن جانبٍ آخر فلا تجد منه زلةً في تعبير أو فُحشاً في قول، بل تجدهُ يعبر عن الأمور الحساسـة والتي تثير غريزة القارئ بتعابير تحفظ حقيقة تلك الوقائع وتوصلها للقارئ بأدقِّ التعابير والتي لا يمكن للقارئ أن يتحسس منها شيئاً يثيره أو حتى يحرك فكره باتجاهٍ لا يقصده القرآن.
إنَّ كتاباً ضخماً يحوي قصصاً وعِبراً ودستوراً شاملاً مع دقةٍ بلاغيةٍ لا تقارن، وهذه الدقة لا يمكن لأي شخصٍ منَّا أنْ يأتي بمثلها دون أن يجرح مشاعرَ قومٍ أو أن ينال من آخرين أو أن يذكرَ أموراً قد لا تتقبلها الفطرة السلمية، بينما نجد على العكس تماماً أنَّ ذلك الدستور الضخم قد أمتلأ قداسةً وعفةً، فلم يذكر أيَّ موقفٍ إلا ووافق الذوق السليم، فأيُّ كتابٍ هذا! فمن عجائبِ القرآن وواحدةٍ من أدلّةِ الإعجاز، أنَّه لا يوجد في تعبيره ركّة وابتذال وعدم العفّة و ما إلى ذلك، كما أنّه لا يتناسب مع أسلوب الفرد العادي الأمّي الذي تربّى في محيط الجاهليّة، مع أنّ حديث كلّ أحدٍ يتناسب مع محيطه وأفكاره! أليس هذا الكتاب بأعفِ الكُتب، وما حواه من فكرٍ وأفكار تنم عن عفةٍ وحياء.
من مواعظ الإمام علي بن الحسين(ع): (ما من شيءٍ أحب إلى الله بعد معرفته من عفة بطن وفرج، وما من شيء أحب إلى الله من أن يُسأل)([1]).
السبب الذي من أجله ذكر الإمام(ع) أنَّ أحبَّ الأمور عند الله(عز وجل) بعد معرفته هو عفة البطن والفرج، ولم يذكر شيئاً آخر من سائر الواجبات والعبادات كالصلاة مثلاً، هو أنَّ العفة مانعة من وجود السبب المزاحم، والسبب المزاحم أشدُّ تأثيراً من السبب المعد دائماً. فمثلاً الإنسان الذي يتناول الطعام المقوّي والمفيد ولكنه في نفس الوقت يدخل السمَّ أو الميكروب إلى بدنه بنحو منتظم، فمن البديهي أن لا يكون للغذاء أي أثر.
وفي الأمور المعنوية كذلك، فإنَّ الإنسان الذي يأتي بالعبادات كثيراً ولكنه في نفس الوقت يُدخل على قلبِهِ وروحِهِ ميكوربَ الذنب والمعصية فهنا لن يكون لعباداته أي أثر. بخلاف ما إذا لم يكدّرْ مرآةَ القلب شيءٌ من أقذار الذنوب؛ فإنَّ فطرته الإلهية سوف تهديه إلى الرشد والكمال. إذن فترك الذنب أهمُ من فعل العبادة، ولذا فإنّ الشيطان أكثر عمله هو الوسوسة للإنسان بارتكاب الذنب لا ترك العبادة، لأن الذنب حينما يسيطر على الإنسان لا تكون عبادته حينئذ موجبة للتقرّب لله تعالى. وعليه فأحب الأعمال والأمور والأشياء لله تعالى هي ترك هذين الذنبين: أحدهما البطن وما يرتبط به من طلب الدنيا وجمع المال والأطماع. والآخر الشهوات الجنسية([2]).
تعريف العفة
لم يتفق المفسرون على تعريف خاص بالعفة، فصاحب الأمثل([3]) ذكر أنَّ العفة تطلق على مفهومين عام وخاص، فالمفهوم العام هو ضبط النفس في مقابل الرغبات والميول النفسانية والإفراط في اتباعها، وأمّا المفهوم الخاص هو ضبط النفس في مقابل متطلبات الغريزة الجنسية والتحلل الأخلاقي.
وذكر آخر أنَّ العفة: “هي انقيادُ قوة الشهوة للعقل في الإقدام على ما يأمرها به من المأكل والمنكح كمّاً وكيفاً والاجتناب عمَّا ينهاها عنه“([4]). وليس المراد منها حرمان النفس من أشواقها ورغائبها المشروعة، في المطعم والجنس([5]) إنما الغرض منها هو الاقتصاد والاعتدال في تعاطيها وممارستها، إذ كل إفراط أو تفريط مضر بالإنسان، وما أعنيه بالعفة القرآنية هو تَرفُّعُ القرآن عن ذكرِ أمورٍ تخدش حياء المستمع أو القارئ، أو حتى مُخالَفة العُرفِ بذكره ألفاظاً يستهجِنُها الناسُ.
هل في القرآن تعابير جافية؟([6])
زعم البعضُ أنَّ في القرآن تعابير جافية لا تتناسب وأدب الوحي الرفيع؛ وذلك في مثل التعبير بالفرْج وهو اسم لسَوْءة الإنسان. والتعبير بالخيانة بشأن أزواج أنبياء الله، وهو فضح امرأة تكون في حصانة زوجٍ كريم. والتعبير بـ (اخسؤوا) والتشبيه بالحمار والكلب، وكذا سائر التعابير الغليظة الجافة في مثل {تبت}([7]) و {امرأتُهُ حمالةَ الحطب}([8]) و{قاتلهم الله}([9]). ومن أمثال هذا القبيل مما يوجد في القرآن مما لا يوجد نظيره في غيره من الكتب ذات الأدب الرفيع.
لكنهُ زعمٌ فاسدٌ ناشئ عن الجهل بمصطلح اللغة في ذلك العهد وخلط القديم بالجديد من الأعراف. وتفصيل ذلك:
“التي أحصنت فرجها”
جاء هذا التعبير في القرآن في موضعين([10]) فعابوا عليه التصريح بسَوْءة المرأة! لكنه تعبير كنائي وليس بصريح، حيث المراد من الفرْج هنا هو خصوص جيب القميص وهو خرقٌ مطوَّقٌ في أسفله.
قال ابن فارس: “الفاء والراء والجيم. أصلٌ صحيحٌ يدل على تفتحٍ في الشيء. من ذلك: الفُرجة في الحائط وغيره والشقّ. والفروج: الثغور التي بين مواضع المخافة“([11]). قال: “والجيب، جيبُ القميص“([12])، وهو خرق مستطيل في قدامه. يقال: جِبتُ القميص، قَوَّرْتُ جَيْبَهُ، وهو خَرْقُهُ مِنْ وَسَطِهِ خرْقاً مُسْتَديراً. وفي القرآن {وَليَضْرِبْنَ بخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ}([13]) وهو خرق في صدر القميص. ويقال: فلانٌ ناصح الجيب أي أمينه([14]). ويقال: طَاهرُ الجَيبِ أي نَزيهَهُ.
فالفرج في هكذا تعابير هي فُرجة القميص أي جيبه، وهو عبارة عن خرق مطوّق في أسفله، حسب العادة في قُمصان العرب. فإحصان الفرج عبارة عن طهارة الذيل أي نزاهته عن دنس الفحشاء([15]).
وهو استعمال على الأصل العربي القديم والذي جرى عليه القرآن الكريم على المصطلح الأول، أمّا أخيراً فغلب استعماله في سَوْءة المرأة وهو استعمال مستحدث، لا يُحمل القرآن عليه. قال تعالى: {وَالحافِظينَ فُرُوجَهُم وَالحافِظات}([16]) .وقال أيضاً جلَّ وعلا: {قُل لِلمُؤمِنينَ يَغُضّوا مِنْ أبْصارِهِمْ ويَحْفَظوا فُروجَهُم… وَقُلْ لِلْمؤمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أبْصارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُروجَهُنَّ}([17]) كل ذلك كناية عن التحفظ على نزاهة الذيل عن دنس الفحشاء، وليس اسماً خاصّاً للسَوْءة ولا سيما سَوْءة المرأة.
“فخانتاهما”
قال تعالى: {ضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِلَّذينَ كَفَروا امْرَأةَ نوحٍ وامْرَأةَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدين مِنْ عِبادِنا صالِحين فَخانَتاهُما}([18])، فعابوا على القرآن فضحَ امرأتين هما زوجان لعبدين صالحَين! لكن التعبير بالخيانة هنا لا يراد بها ارتكاب الفاحشة، كلا! وإنما هو مجرد مخالفة الزوج وإنكار رسالته، قال الفيض الكاشاني: “فخانتاهما بالنفاق والتظاهر على الرسولين“([19]).
سورة يوسف
من العِبر الكثيرة في القرآن الكريم، أحببنا التوقف قليلاً مع سورة يوسف لأن بها أبلغ مثال على العفة التي يتسمُ بها كتابُ اللهِ(جل وعلا).
قال تعالى: {وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ * وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ}([20]).
مقدمة لا بدَّ منها:
إنَّ الآية الكريمة كانت ولا زالت موضوع بحث المفسرين والمحققين لِما تشتمل عليه من نكاتٍ علميةٍ وعمليةٍ على عصمةِ الأنبياءِ بشكلٍ عام وعصمةِ نبي الله يوسف(ع) بشكلٍ خاص. وخصوصاً أنَّ الآية تصف الخلوة بين يوسف(ع) وزوجة العزيز بوصفٍ دقيقٍ حيث حكى الباري(عز وجل) رغبة كل شخصٍ منهما وبما خالجَ فكر كلٍ منهما. إنَّ الخلوة التي تصفها الآية الكريمة، والتي يظهر من قيودها شدة رغبة زوجة العزيز على فعلها، فكما ذكر اللُغَويون أنّ لفظة {رَاوَدَتْهُ} أي راودته على الأمر مراودة ورواداً من باب قاتل: طلبت منه فعله، “وكأنَّ في المراودة معنى المخادعة لأنَّ الطالب يُتطَّلف في طلبه بلطف المخادع ويحرص حرصه“([21]). وأيضاً ذكروا أنَّ لفظة {غَلَّقَتِ} تفيد المبالغة والتشديد في غلق الأبواب أي إطباق الباب بما يعسر فتحه، ولم يختص التغليق -شدة الغلق- ببابٍ واحد بل عمَّ جميع الأبواب بدليل الجمع المحلّى باللام([22])، و{هَيْتَ لَكَ} اسم فعل بمعنى هلُمَّ أو أقبل([23])، و{مَعَاذَ اللّهِ} أي أعوذ بالله معاذاً فهو مفعول مطلق قائم مقام فعله([24]).
والمسائل التي تسترعي الانتباه في هذه القصّة ما يلي:([25])
1- كلمة (راوَدَ) تستعمل في مكان يطلب فيه أحدٌ من الآخرِ شيئاً بإصرارٍ ممزوجاً بالترغيب واللين، لكن ما الذي أرادته امرأة العزيز من يوسف؟! بما أنّه كان واضحاً فقد اكتفى القرآن بالكناية والتلميح دون التصريح! إذ أنَّ الهدفَ والمقصود قد اتضح للعيان، فيصبح من المعيب على القرآن -في حال التصريح- أنْ يأتي بموضِّحات لِما قد اتضحَ سابقاً، حيث تكفلت هذه الكلمة ببيانه، فيكون بيانه الآخر من باب تحصيل ما هو حاصل.
2- إنَّ القرآن هنا لم يعبّر عن امرأة العزيز تعبيراً مباشراً، بل قال: {الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها} ليقترب من بيان العفّة وإسدال الحجاب، حيثُ المُلك والسلطان والأمر والنهي بيدها، ففي هذا المقطع نفهم أنَّها كانت مسيطرةً على الوضع ولا يمكن ليوسف(ع) إلا الامتثال -حسب اعتقادها وفق الوضع الحاصل آنذاك-، كما جسّد القرآن معرفة يوسف للحقّ وجسّد مشاكل يوسف أيضاً في عدم التسليم إزاء من كانت حياته في قبضتها.
3- {غَلَّقَتِ الأَبْوابَ} التي تدلّ على المبالغة وأنَّ الأبواب جميعاً أوصدت بشدّة، حيث أشرنا إلى قضية التشديد في غلق جميع الأبواب.
4- جملة {هَيْتَ لَكَ} تشرح آخر كلام امرأة العزيز للبلوغ إلى وصالِ يوسف، و لكنّها في عبارة متينة ذات مغزى كبير وليس فيها ما يشير الى تعبير سيئ.
5- {مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ} التي قالها يوسف لتلك المرأة، معناها كما يقول أكثر المفسّرين: انّي ألتجئ الى اللّه فإنّ عزيز مصر صاحبي وسيّدي وهو يجلّني ويحترمني ويعتمد عليّ، فكيف أخونه؟! وهذا العمل خيانة وظلم {إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ} وبهذا توضّح الآية سعي يوسف إلى إيقاظ العواطف الإنسانية في امرأة العزيز.
6- جملة {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} ترسم-من جهة- تلك الخلوة بدقّة، بحيث لو أنّ يوسف لم يكن لديه مقام العصمة أو العقل أو الإيمان لكان قد وقع في (الفخّ). ومن جهة أخرى ترسم انتصار يوسف أخيراً في هذه الظروف على شيطان الشهوة الطاغي بأسلوب رائع، كما سنشيرُ إليه لاحقاً. الطريف هنا أنّ الآية استعملت كلمة (همّ) فحسب، أي أنَّ امرأة العزيز صَمَّمت من جهتها على الفعل ولو لم يرَ يوسف برهان ربّه-أي لولا عصمته- لصمّم من جهته أيضًا، ترى هل توجد كلمة أكثر متانة للتعبير عن (القصد والتصميم) أفضل من هذه؟! وكما ذكر أصحاب اللغة فإنَّ (لولا) حرفُ امتناعٍ لوجود، أي عندما تقول لشخص: لولا زيارتك لي لزُرتُكَ. أي أنَّه امتنع مني زيارتُك وذلك لوجود زيارتك لي، فالآية الشريفة عندما تصف هذه الحقيقة {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} أي أنَّ الهمَّ قد حصل من جانبها بيدَ أنَّ يوسفَ لولا أن رأى برهان ربه –أي لولا عصمته- لهمَّ بشيءٍ. ولكن كما قلنا أنَّ لولا حرف امتناع لوجود فإذا قد امتنع الهمُّ من يوسف لوجود العصمة. فتأمل!
وأيضاً فالبعض قد توهم أنَّ نبي الله(ع) قد همَّ بالمعصية وذلك لوجود العطف بين همِّهِ وهمِّها وذلك إذا قرأنا الآية بهذا النحو {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها} بلا فاصلة بين المقطعين، وأمَّا إذا قرأنها بهذا النحو {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ -بوجود الفاصلة هنا- وَ هَمَّ بِها لَوْلا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ} فلا يكون للتوهم السابق وجهٌ. وربما يُقال أنَّ النحاةَ منعوا تقدم جزاء لولا عليها([26])، إلاَّ أنه يمكن حمل {وهمَّ بِها} على أنها ليست بجزاء لِـلولا وإنما هو مقسومٌ به بالعطف على {وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ} وهو في معنى الجزاء فاستُغنيَ بهِ عن ذكرِ الجزاء([27]).
دليلٌ آخر من الآية: قوله تعالى {… كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء}.
هذا التعبير الجميل والرائع في هذا المقطع من هذه الآية يشير بشكلٍ راقٍ عن العفة، فالآية نصت على: لنصرف عنه السوء والفحشاء ، ولم تعبّر بجملة: نصرفه عن السوء والفحشاء، فهل هناك فرق بين هذين التعبيرين؟
الحقيقة أن هناك فرقا كبيرا، لأننا تارة نقول: صرفتُ زيداً عن اللعب، وأخرى نقول: صرفت اللعب عن زيد. وذلك لأن المفهوم من التعبير الأول هو أنَّ زيداً يمتلك الإرادة لأن يلعب ويوجد لديه ميل للقيام بهذا العمل ولكنك صرفت زيداً عنه. بعبارة أخرى، يدلُّ التعبير الأول على وجود المقتضي للقيام باللعب عند زيد، إلا أنَّ المانع هو السبب في عدم وقوعه.
أما الصيغة في التعبير الثاني فهي بخلاف ذلك، إذ المفهوم منه هو عدم وجود المقتضي للَّعب عند زيد أصلاً. لأجل أن يضع القرآن الكريم أيدينا على هذه الحقيقة المتمثلة بعدم وجود الميل النفساني للسوء والفحشاء في نفس يوسف(ع) أصلاً، فقد عبّرت الآية الكريمة بجملة: {…كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء} ولم تقل: (لنصرفه عن السوء والفحشاء)([28]).
اسم عزيز مصر
مما يستجلب النظر في آيات هذه السورة المباركة أنَّ اسم عزيز مصر لم يُذكر فيها، وإنما ورد التعبير عنه بـ {الَّذِي اشْتَرَاهُ}([29]) لكن من هو هذا العزيز، حيث لم يصرّح في القرآن الكريم به إلا بالتدريج، فمثلا نقرأ بعض الآيات نجد الإشارات له تتوالى دون التصريح باسمه، فيقول الباري في آية أخرى {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ}([30]) وحين نتجاوز هذه الآية نواجه التعبير عن زوجته {امْرَأَةُ الْعَزِيزِ}([31]).
وهذا البيان التدريجي إمّا لأن القرآن يتحدث –حسب طريقته– بالمقدار اللازم، وهذا دليل من أدلة الفصاحة والبلاغة، أو لأنه حين يبدأ بالقصة، يبدأ بها من نقطة غامضة ليتحرك الإحساس في الباحث، وليلفت نظره نحو القصة([32]).
وهذا دليل على أنّ القرآن قد لا يصرح بأشياء لا تغني ولا تسمن من جوع، بينما يعطي إشارات راقية للعفة قد تخفى عن قارئ تلك الآيات إلا بالتمعن والدقة. قال تعالى : {وَالَّذينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إلاَّ عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَأنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتَغَى وَرَآءَ ذَلِكَ فَأوْلَئكَ هُمُ العَادُونَ}([33]).
هذه الآية تتحدث عن الصفات البارزة للمؤمنين حيث يذكرها القرآن الكريم بعباراتٍ قصيرةٍ ومليئةٍ بالمعنى ضمن بيان قسم مهم من صفات المؤمنين ويذكر صفة العفة والطهارة بأنها إحدى الصفات والخصال الممتازة لهؤلاء المؤمنين، والملفت للنظر أنَّ القرآن الكريم يذكر من ضمن الصفات الممتازة للمؤمنين صفة العفة بعد الصلاة والزكاة والامتناع من اللغو وحتى أنَّهُ يذكرها قبل صفة الأمانة والوفاء بالعهد أيضاً.
الخلاصة مما أردنا بيانه
هذه القصّة تتحدّث عن عشق امرأة والهةٍ ذاتِ أهواء جامحة لشاب جميل طاهر القلب. فأصحاب المقالات والكتَّاب حين يواجهون مثل هذا الأمر، إمّا أن يتحدّثوا عن أبطال القصّة بأن يطلقوا للقلم أو اللسان العنان، حتّى تظهر في (البين) تعابيرَ مثيرةٍ وغير أخلاقية كثيرة. وإمَّا أن يحافظوا على العفّة والنزاهة في القلم واللسان ويقصروا في جانب آخر، فيحوّلوا القصّة إلى القرّاء أو السامعين بشكلٍ غامض ومبهم. فالكاتب أو صاحب المقال مهما كان ماهراً سيُبتلى بواحدٍ من هذين الإشكالين، ترى هل يعقل أنّ فرداً لم يدرس يرسم رسماً دقيقاً وكاملاً لفصول مثل هذا العشق المثير، دون أن يستعمل أقلّ تعبير مثير وبعيد عن العفّة؟! ولكنّ القرآن يمزج في رسم هذه الميادين الحسّاسة من هذه القصّة بأسلوب فريدٍ في الدقّة في البيان مع المتانة والعفّة، دون أن يغضّ الطرف عن ذكر الوقائع، أو أن يُظهرَ العجزَ، وقد استعمل جميع الأصول الأخلاقية والأمور الخاصّة بالعفّة.
مجلة رسالة القلم – العدد 27 – 7 رجب 1432هـ
([1]) تحف العقول : 282.
([2]) كلمات مضيئة من نفحات الإمام القائد السيد الخامنئي (العفة) : 302.
([3]) الأخلاق في القرآن ج2 : 259.
([4]) جامع السعادات للنراقي ج1 : 363.
([5]) كما قد يتوهم من حديث الرسول الأكرم(ص): >أكثر ما تلج به أمتي النار، الأجوفان البطن والفرج< بحار الأنوار ج71: ص269.
([6]) الإشكالات مقتبسة من شبهات وردود حول القرآن الكريم ” محمد هادي معرفة” : 241-242.
([7]) المسد: 1.
([8]) المسد : 4.
([9]) التوبة: 30 ، المنافقون: 4.
([10]) الأنبياء: 91 {وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا}. التحريم: 12 {وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا}.
([11]) معجم مقاييس اللغة ج4: 498.
([12]) معجم مقاييس اللغة ج1: 491 و 497.
([13]) النور : 31.
([14]) لسان العرب ج1 : 288.
([15]) ونظيره جاء التعبير في الفارسية ” پاکی دامن”.
([16]) الأحزاب : 35.
([17]) النور : 30 و 31.
([18]) التحريم : 10.
([19]) تفسير الصافي ج2 : 720.
([20]) يوسف : 23- 24.
([21]) مجمع البحرين ج3-4 : 37.
([22]) تفسير الميزان ج12 : 127.
([23]) إرشاد الأذهان الى تفسير القرآن ج1 : ص243.
([24]) تفسير الميزان ج12 : 122.
([25]) تفسير الأمثل ج6 : 272 ، مع التصرف.
([26]) وإن وُجِدَ من أجاز تقدم جزاء لولا عليها، راجع التبيان في تفسير القرآن ج6 : 122.
([27]) كما ذكر السيد العلامة في تفسير الميزان ج12 : 131.
([28]) عصمة الأنيباء في القرآن، سيد كمال الحيدري : 90.
([29]) يوسف : 21.
([30]) يوسف :25.
([31]) يوسف: 30.
([32]) تفسير الأمثل ج6 : 258.
([33]) المؤمنون : 5-7.
جميع الحقوق محفوطة لـ جمعية اقرأ لعلوم القرآن