العلامة الشيخ محمد صنقور
المسألة:
﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ ما هي الآيات التي رأوها؟، وإذا كان الضمير في ﴿لَهُم﴾ عائداً على النسوة فلماذا لم يكن مؤنثاً؟
الجواب:
المراد من الآيات في الآية المباركة هو الشواهد والدلائل إلا أن مدلول هذه الشواهد يحتمل معنيين:
المعنى الأول: أن مدلولها هو براءة يوسف مما نسبته إليه امرأة العزيز حيث قالت: ﴿مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾(1).
المعنى الثاني: إنَّ مدلول الشواهد هو اليأس من استجابة يوسف لدعوة امراة العزيز، وما دعته اليه النسوة اللواتي جمعتهن لرؤية يوسف (ع).
الشواهد على براءة يوسف (ع):
فيكون مفاد الآية بناءً على الاحتمال الثاني أنَّه بعد ما دلَّت الشواهد على أنَّ يوسف لن يستجيب لرغبة امرأة العزيز ارتأوا ان يسجنوه إلى حين.
فلو كان الاحتمال الأول هو المراد من الآية المباركة فحينئذٍ تكون الآيات والشواهد هي مثل تمزُّق قميص يوسف من الخلف، إذ ان ذلك يُناسب فرار يوسف من امرأة العزيز ولحاقها به واجتذابها له من الخلف ما أدَّى إلى تمزّق قميصه من تلك الجهة، وذلك يُعبِّر عن انه لم يكن قد قصدها بسوء وإلا لكان تمزق القميص من الأمام، إذ أن ذلك هو المناسب لمقتضى دفاعها عن نفسها لو كان هو من بادرها بالسوء.
ولعلَّ من الشواهد أيضاً ما أفاده أحد أهلها من تقريرٍ للملازمة بين قدِّ القميص من الخلف وبين براءة يوسف (ع)، وظهور القميص بعد ذلك ممزوقاً من الخلف. فالقبول بالملازمة والقبول بنتيجة الملازمة من قِبلِ من يُنتظر من الممالئة والميل لصالح امرأة العزيز شاهدٌ على براءة يوسف (ع)، لذلك اعتنى القرآن بنقل كلامه ووصفَه بما يعبِّر عن كون كلامه مُلزِماً نظراً لكونه من ذوي قرابتها فقال: ﴿وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ {يوسف/26} وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ {يوسف/27} فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ﴾(2) فكان إقراره بالنتيجة. المستفاد من قوله ﴿إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ﴾ شاهد آ خر يُضاف إلى صحة الملازمة عرفاً. واعتبارُه شاهداً آخر ينشأ عن كون الإقرار صادراً ممن يُنتظر منه الممالئة والتغطية على خطيئة امرأة العزيز، كونها من ذوي قرابته.
و من الشواهد على براءة يوسف (ع) اعترافها للنسوة بأنها مَن راودته عن نفسه فاستعصم ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾(3) فامرأة العزيز وإن كانت قد أنكرت مراودتها ليوسف عن نفسه أمام زوجها حين ألْفته على الباب واتهمت يوسف بأنَّه هو مَن قصدها بالسوء فقالت: ﴿مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءًا…﴾ إلا أنها ورغم إنكارها أمام زوجها أقرَّت أمام النسوة فكان إقرارها شاهداً، لأن العادة تقتضي وصول هذا الإقرار إلى زوجها خصوصاً وأنها أقرّت أمام نسوة وصفَهن القرآن بما يُعبِّر عن أنَهنَّ لم يكنَّ على وئامٍ تام مع امرأة العزيز قال تعالى: ﴿وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ﴾(4) فالآية تحكي عن أن هؤلاء النسوة اتخذن من هذه القضية مدخلاً للتفكُّه والتشهير بامرأة العزيز والطعن عليها واتهامها بالضلال المبين، فإذا كان هذا هو حالهن قبل التثبُّت من صدق الواقعة فمقتضى ذلك أن يكون النبز والإذاعة بعد التثبُّت من صدق الواقعة بالإقرار أشد، ولهذا يكون وصول الإقرار إلى مسامع العزيز حتمياً عادة، فيكون ذلك شاهداً يُضاف إلى الشواهد الأخرى عند العزيز على براءة يوسف (ع).
ولعلّ من الشواهد أيضاً هو تقطيع النسوة أيديهنَّ حين دخل عليهنَّ انبهاراً بجماله وحُسْن منظره، وهو أمر لا يكاد يتفق مما يُعطي مؤشِّراً واضحاً عند مَن يقف على هذا الخبر أنَّ امرأة العزيز هي أيضاً قد انتابها من الإعجاب والانبهار بجمال يوسف ما دفعها إلى مراودته عن نفسه، فحالةُ الانجذاب ليوسف والتي لم تتمكن النسوة من إخفائها رغم انهنَّ كنَّ في محفلٍ يقتضي بحسب العادة التمظهر بالتعالي عن مثل ذلك خصوصاُ وأنَّهنّ كنَّ قد قد عيَّرن امرأة العزيز بأنَّه قد شغفها حبُّ يوسف إلا انَّ ما وقع كان على خلاف ما تقتضيه العادة فأظهرن إعجاباً وانجذاباً ليوسف لم يكن كما يبدو إرادياً إذ من المستبعد أن يجرح الإنسان نفسه إلا أن يكون غافلاً كيف وقد اتفق ذلك لأكثرهن أو لهنَّ جميعاً، فذلك يؤشِّر على ان امرأة العزيز لم تكن أحسن حالٍ منهنَّ خصوصاً انَّ ما تهيأ لها من الخلوة بيوسف لم يكن قد تهيأ لهنَّ ورغم ذلك دَعيْنَه فلم يصبُ لهن. ولهذا وجدت ان ذلك معذِّراً لها فأقرَّت لهنَّ بما وقع منها وصار لها ان تُعبِّر لهنَّ عن عدم قبولها بلومهنَّ لها وأنها مقيمة على رغبتها فإن لم يفعل كان السجن والصَغار هو ما سيئول إليه أمره ﴿قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِّنَ الصَّاغِرِينَ﴾(5).
وثمة شاهد آخر على براءة يوسف احتمله بعضُ الأعلام وهو استباقها الباب أي أنَّ العزيز اتفق ان وجد زوجته ويوسف يستبقان إلى الباب، فكان ذلك مؤشِّراً على براءة يوسف (ع)، إذ لا معنى لمبادرة يوسف إلى الباب لو كان هو مَن راودها. إلا أن الظاهر عدم تمامية هذا الشاهد، إذ من الممكن أن يسبقها إلى الباب ليمنعها من فتحه والخروج منه لو كان هو الذي راودها، نعم يمكن أن يكون ذلك شاهداً على براءة يوسف لو وجده العزيز وهو يفتح الباب فإن ذلك يُناسب أن تكون هي مَن راودته فبادر إلى فتح الباب إلا أن يُقال ان ذلك أيضاً لا يبرءُه لاحتمال أن تكون قد زجرته بعد أن راودها وطردته وأخذت تدفعه إلى الباب فالفت سيدها لدى الباب.
فالصحيح أن المؤشر الواضح على براءته في ذلك الموقف هو امتزاق قميصه من الخلف إذ لا مبرر لذلك إلا أنَّها أرادت اجتذابه وليس دفعه للخروج.
نعم ورد في تفسير القمي عن أبي الجارود عن أبي جعفر (ع) في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾(6) قال (ع): “الآيات: شهادة الصبي والقميص المخرَّق من دبر واستباقهما الباب حتى سمع مجاذبتها إياه على الباب..”.
فيكون الشاهد على براءته (ع) هو أن العزيز سمع مجاذبتها ليوسف على الباب. وليس هو مجرَّد استباقهما إلى الباب، وحينئذٍ لا يكون هذا الشاهد من الشواهد المصرَّح به في القرآن الكريم وإنما تمَّ الوقوف عليه بواسطة الروايات الواردة عن أهل البيت (ع).
فالمتحصَّل مما ذكرناه أنَّ الشواهد التي أشار إليها القرآن الكريم على براءة يوسف (ع) أربعة:
الأول: تمزُّق قميص يوسف (ع) من الخلف.
الثاني: تقرير الشاهد من أهل امرأة العزيز للملازمة وقبوله بنتيجتها.
الثالث: إقرار امرأة العزيز بمراودتها ليوسف أمام النسوة.
الرابع: تقطيع النسوة أيديهن حين رؤية يوسف واستعصامه رغم دعوتهن له.
هذه هي الآيات والشواهد التي أشار إليها القرآن الكريم والتي أوجبت – ظاهراً – لهم العلم ببراءة يوسف (ع)، ولعلَّ ثمة شواهد أخرى لم يعتنِ القرآن الكريم بنقلها كالتي وردت في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (ع).
ثمّ إن القرآن الكريم لم يكن بصدد الحكم على صلاحية هذه الشواهد على اثبات براءة يوسف (ع) أو عدم صلاحيتها لاثبات ذلك وإنما كان بصدد بيان ان ثمّة شواهد أوجبت لهم العلم ببراءة يوسف ورغم ذلك بدا لهم ان يسجنوه.
هذا بناء على الاحتمال الأول وانَّ المراد من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ﴾ هو انهم ارتأوا ان يسجنوه بعد علمهم ببراءته.
اليأس من استجابة يوسف (ع):
وأما بناء على الاحتمال الثاني و ان المراد من الآية المباركة هو انهم ارتأوا ان يسجنوه بعد ما رأوا الآيات والشواهد المقتضية لليأس من استجابة يوسف (ع) لتحقيق رغبة امرأة العزيز فيكون مدلول الشواهد والآيات هو اليأس من قبول يوسف لما تدعوه إليه امرأة العزيز من فعل المنكر معها.
فبناءً على هذا الاحتمال تكون الشواهد هي اباؤه المتكرر لدعوة امرأة العزيز، فلعلَّ اباءَه للدعوة في المرة الأولى لم يوجب لها اليأس من رفضه فعاودت الدعوة له مرة بعد أخرى في الخلوة بل وحتى في محفل النسوة اللاتي دعتهن واعتدت لهن متكئاً وهددته بالسجن والصغار إن لم يصبُ لدعوتها ثمّ ان النساء دعينه لها أو لأنفسهن فتأبَّى عليهن فذلك كله هو ما أوجب اليأس من استجابته.
ولعلّ ما يُعيِّن الاحتمال الثاني وأن مدلول الآيات والشواهد هو اليأس من استجابة يوسف هو أن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ﴾ جاء بعد الإخبار عن دعوة امرأة العزيزة للنسوة وتهديدها ليوسف بالسجن في محفلهنَّ إن لم يفعل ما تأمره، واباؤه عليها وعلى النسوة ما كنَّ قد دعينه إليه، وقوله إنَّ السجن أحبُّ إليه من ذلك.
فلو كان الاحتمال الأول هو المراد لكان ما وقف عليه العزيز من شواهد على براءة يوسف حين دخوله إلى الباب كافياً لحصول العلم ببراءته. وحينئذٍ كان المناسب منه الحكم عليه بالسجن لغرض إيهام الناس أنَّ يوسف هو مَن قصد زوجته بالسوء لأن الغرض من سجن العزيز ليوسف بناءً على الاحتمال الأول إنَّما هو التعمية والإيهام بتورط يوسف بهذه القضية إذ لا ريب أن الشواهد قاضية ببراءته عنده، وأما بناءً على الاحتمال الثاني فإن السجن يكون لغرض الانتقام من يوسف والنكاية به من قبل امرأة العزيز، لأنَّه لم يستجب لرغبتها.
فلأن قرار السجن جاء متأخراً عن الواقعة التي شهدها العزيز رغم ان الدواعي تقتضي المبادرة لاتخاذ هذا القرار، ولان قرار السجن قد تعقَّب ما وقع في محفل النسوة وتهديد امرأة العزيز فذلك يؤكد الاحتمال الثاني و انَّ المراد من الآيات في قوله: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ هو الشواهد المقتضية لليأس من استجابة يوسف (ع).
وثمة قرينة أخرى يمكن التمسك بها لإثبات تعيُّن الاحتمال الثاني وهو قوله تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ {يوسف/50} قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ {يوسف/51} ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ﴾(7).
فهذه الآيات مشعرة بأن قرار السجن كان بإيعازٍ من امرأة العزيز انتقاماً من يوسف وتبرأة لساحتها، فهي قد أوهمت زوجها بأن يوسف هو مَن قصدها بالسوء فاقتنع بذلك أو ارتاب في أمر يوسف فأصدر قراراً بسجنه. ولذلك أصرَّ يوسف على تبرئته قبل الخروج من السجن، ولو كان الملك يعلم ببراءته وأنَّه سجنه إيهاماً لمَا كان من مبررٍ لسؤال النسوة، ولما كان من مبررٍ لتصدِّيهن أمام الملك لتبرءة يوسف ولما قالت امرأة العزيز: ﴿الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ﴾ وكأنَّ الأمر لم يكن كذلك في ذهن العزيز، وهو ما يؤكد أن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ﴾ هو أنه بدا لإمرأة العزيز ومَن معها أن يسجنوه من بعدما رأوا الشواهد على أن يوسف لن يستجيب لرغبتها. وليس ما بدا لهم من الشواهد هو براءته وأنهم قرروا سجنه إيهاماً وتغطية على خطيئة امرأة العزيز كما هو مقتضى الاحتمال الأول.
إلا إنَّ الصحيح أن شيئاً مما ذُكر لا يصلح لتعيُّن الاحتمال الثاني.
أما القرينة الأولى: وهو أن قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم﴾ جاء بعد الحكاية لِما وقع في محفل النسوة لا يقتضي أن ما بدا لهم كان هو اليأس من استجابة يوسف لاحتمال ان قرار السجن إنما نشأ من قِبل العزيز وحاشيته بسبب ذيوع الخبر وانتشاره بين الناس، فلأنهم أرادوا إيهام الناس ببراءة امرأة العزيز حفاظاً على كرامة العزيز وموقعه قرروا سجنه.
وأما لماذا لم يُقدم على سجنه من أول الأمر فلاحتمال أنه رأى أن الأمر لا يستوجب ذلك، لأنَّه لن يخرج عن بيت العزيز. فلا معنى لسجنه خصوصاً وأن السجن لم يكن لخطئاً ارتكبه يوسف وإنما هو للإيهام، فباعتبار أن الأمر لم يكن قد شاع بين الناس أو لا أقل هذا ما كان يظنه العزيز، ولأنه لم يكن يحتمل أن الأمر سيخرج من قصره إذ أن العادة مقتضية انْ تظلَّ أسرار بيوتات الأمراء والملوك مكتومة عن الناس، فلأن الأمر كان كذلك لم يجد العزيز ما يستدعي قرار السجن ليوسف (ع)، فتأخُّر قرار السجن لا يقتضي تعيُّن الاحتمال الثاني كما لا يقتضي عدم حصول العلم له ببراءة يوسف (ع).
بل قد يقال أن عدم سجنه من أول الأمر قرينة على تعيُّن الاحتمال الأول وأنَّه كان قد تيقن من براءة يوسف لِما رآه من تمزُّق القميص من الخلف وغيره من الشواهد.
وإلا لو كان يراه مخطئاً ومذنباً لسجنه بل حتى لو كان يظن بذلك، إذ لا يُنتظر من مثله التثبُّت خصوصاً وإنَّ الأمر يتصل به شخصياً، فعدمُ الإقدام على سجنه من أول الأمر قرينة واضحة على يقينه ببراءة يوسف (ع) وان قرار السجن بعد ذلك كان لغرض الإيهام نظراً لشيوع الأمر بين الناس.
وأما القرينة الثانية: فيتضح سقوطها بالالتفات إلى أنَّ قرار السجن إنما كان من العزيز وحاشيته ولم يكن من الملك أو لم يكن ذلك منه ابتداءً، ولذلك كان من الممكن جداً أن لا يكون الملك مطّلعاً على واقع ما حدث ليوسف بل من الممكن ان لا يكون مطّلعاً على وجود يوسف أصلاً فضلاً عن اطّلاعه على قضيته وسجنه، إذ ان مثل هذه الأمور التي هي من الصغائر بنظر الملوك لا تكون عادة مورداً لاهتمامهم، وحتى لو كان الملك قد اطّلع على قضية يوسف فإنه لن يطّلع على ملابساتها إلا عن طريق العزيز وحاشية العزيز وحينئذٍ لن يتعرَّف منهم على واقع القضية بل سينقولنها له بالنحو المناسب لمصلحة العزيز، ومن الواضح أن الذي يتناسب ومصلحة العزيز هو إيهام الملك بتورط يوسف بمراودة امرأة العزيز.
وبهذا يتضح منشأ سؤال الملك للنسوة ومنشأ أهمية إقرار زوجة العزيز بصدق يوسف وانَّها هي مَن راودت يوسف عن نفسه، فلان العزيز وحاشيته كانوا قد حبكوا القضية أمام الملك بالنحو الذي يجعل من يوسف مخطئاً بنظره لذلك كان جواب النسوة واعتراف امرأة العزيز أمراً لم يكن معلوماً لدى الملك مسبقاً، بل كان يرى الواقع على خلاف ما أقررنَ به، أو لانه لم يكن أساساً مطّلعاً على قضية يوسف فكان سؤاله للنسوة ناشئاً عما أثاره يوسف في رسالته إليه، نعم معرفته بعد الرؤية التي رآها أن يوسف في السجن جعله يتوّهم انه كان قد ارتكب جرماً فاقتضى ذلك ان يُسجن إلا انه قرَّر العفو عنه بعد تعبيره لرؤياه فاستثمر يوسف ذلك ليُثبت براءته، ولهذا طلب من الملك أن يسأل النسوة اللاتي حضرن مجلس امرأة العزيز وقطَّعن أيديهن فكان جوابهن وإقرار امرأة العزيز قاضياً ببراءته.
فالمتحصّل مما ذكرناه انه لا منافاة بين قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ﴾ – بناءً على الاحتمال الأول- وبين سؤال الملك واستعلامه عن واقع القضية التي وقعت ليوسف (ع).
إذ ان الذي حصل له العلم ببراءة يوسف (ع) بواسطة الآيات والشواهد إنما هو العزيز ومَن كان معه، وهم من قرَّر أو هُمْ مَن أوحى للملك بسجنه. فيكون سؤال الملك للنسوة بعد ذلك إنما هو عن أمرٍ لم يكن مطّلعاً على واقعه.
وبذلك تنتفي قرينيَّة سؤال الملك واستعلامه من النسوة على أن قرار السجن كان بإيعاز وإيهام من امرأة العزيز لزوجها وأنَّها فعلت ذلك بعد يأسها من استجابة يوسف (ع) لرغبتها.
وبتعبير آخر: إنَّ سؤال الملك للنسوة واستعلامه منهنَّ عن واقع القضية التي وقعت ليوسف إنما يصلح قرينة على أن المراد من الآيات هو الشواهد المقتضية ليأس امرأة العزيز من استجابة يوسف (ع). لو كان قرار السجن نشأ عن إيهام امرأة العزيز لزوجها بأن يوسف هو من قصدها بالسوء وحينئذٍ قرر هو أو أنه أوحى للملك بأن يقرر سجنه.
أما لو كان الملك هو غير العزيز وإن قرار السجن قد صدر عن العزيز وحاشيته أو أنه أوحى للملك بأن يُصدر قراراً بسجن يوسف (ع) فإن هذه القرينة تكون ساقطة لتعقل أن العزيز كان يعلم ببراءة يوسف إلا أنه قرَّر سجنه أو انه أوحى للملك بسجنه لغرض الإيهام، وحينئذٍ يكون استعلام الملك عن واقع القضية بعد رسالة يوسف (ع) معقولاً جداً وغير منافٍ لعلم العزيز وحاشيته ببراءة يوسف (ع).
فيكون محصَّل ما وقع هو ان العزيز وحاشيته رغم اطلاعهم على براءة يوسف (ع) -نتيجة ما ظهر لهم من الآيات والشواهد على ذلك- قرروا سجنه بعد ما ذاع الخبر بين الناس إيهاماً لهم بأنَّ المتورِّط بالخطيئة هو يوسف (ع)، وان الملك هو أيضاً قد وقع في نفس هذا الوهم، لأنه قد اعتمد على ما نقله إليه العزيز وحاشيته، ولم يخطر في نفسه ان العزيز وحاشيته قد كذبوا عليه أوانه لم يكن مهتماً بالأمر فلم يتحقق من صدقهم أو كذبهم أو أنه لم يطّلع على القضية أساساً، ويكفي واحد من هذه الفروض لتعقُّل استعلامه من النسوة بعد رسالة يوسف (ع).
منشأ جعل الضمير لمذكر الجمع:
وبهذا يتضح منشأ جعل الضمير للمذكر في قوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ﴾ فلأن الضمير عائد للعزيز وحاشيته ممن يهمهم مصلحة العزيز لذلك جاء ضمير الجمع (لهم) للمذكر.
ويمكن أن يكون الضمير عائداً للملك بالإضافة إلى العزيز وحاشيته باعتبار ان الملك هو مَن أصدر القرار بالسجن ولكن بإيعازٍ من العزيز وحاشيته فيكون منشأ جعل الضمير للجمع رغم أن القرار قد صدر عن الملك وحده هو أن العزيز وحاشيته كان لهم الأثر الأكبر في إصدار القرار، فكان القرار قد صدر عنهم واقعاً وإن كان قد صدر عن الملك رسماً.
ويمكن القول بأن المصحِّح لجعل الضمير للجمع المذكر هو أنَّه عائد للعزيز وحاشيته وإن الآية لم تكن بصدد الحديث عن قرار السجن وإنما هي بصدد الحديث عن أن العزيز وحاشيته ارتأوا سجن يوسف (ع) وعقدوا العزم على ذلك، فقوله تعالى: ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم﴾ أي ظهر لهم ان المصلحة مقتضية لسجنه فهي لم تتحدث عن قرار السجن، وإنَّما تمّ فهمه من لحن الآية المباركة ولم يتم فهمه من منطوقها.
وعلى أي تقدير فالضمير في قوله تعال ﴿ثُمَّ بَدَا لَهُم﴾ ليس عائداً قطعاً للنسوة، إذ لا معنى أن يقررن أو يرتأين سجنه حيث لا شأن لهن بذلك, نعم يمكن أن يكون لامرأة العزيز أثر في قرار السجن إلا إن ذلك أن لا يعني أن القرار قد صدر عنها أو أنَّها وحدها مَن رأى المصلحة في سجنه وإنما قرارها أو رأيها لو كان سيكون واقعاً ضمن قرار أو رأي العزيز ومعاونيه, وهو ما يُصحح تذكير الضمير وجمعه, وحتى لو كان المتعَّين هو الاحتمال الثاني وانَّ منشأ السجن هو الانتقام بعد اليأس من استجابة يوسف فإن قرار السجن سيكون من تدبير امرأة العزيز ولكنها لن تملك إصداره وإنما ستسعى لاستصداره عن طريق التأثير على زوجها وهو بدوره سوف يستثمر موقعه وصلاحياته لاستصدار القرار وبذلك يكون القرار صادراً عن العزيز ومعاونيه أو عن إيعازٍ منهم للملك، وذلك ما يُصحِّح تذكير الضمير وجمعه أيضاً.
ثم إن النون المشدَّدة في قوله: ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ ليست عائدة للنسوة كما قد يُتوهم وإنما هي نون تأكيدٍ مشدَّدة وهي تدخل على الأفعال التي تكون جواباً للقسم فالفعل في قوله: ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ مضارع مرفوع بثبوت النون والأصل هو (يسجنونه) وإنما حُذفت الواو لالتقاء الساكنين , أعني السكون الذي يكون على الواو والسكون الذي يكون على نون التوكيد المشددة لان التشديد سكون وحركة، فالتقى سكون الواو بسكون النون فاقتضى ذلك حذف الواو, وأما النون التي هي علامة الرفع فحذفت أيضاً وذلك لتوالي الأمثال أعني النون الأصلية في الفعل ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ ونون الفعل ونون التوكيد المشددة التي هي نونان مدغمتان.
ولو كانت النون المشدَّدة للنسوة لكان الصحيح أن يقال: ليسجنانه كما يقال تضربانه.
والحمد لله رب العالمين
جميع الحقوق محفوطة لـ جمعية اقرأ لعلوم القرآن